يُصيب من يُعيب على المجتمع اللبناني واقع أن ذاكرته ضعيفة. فمشهد الاحتفال العوني ــ القواتي يؤكّد هذا العيب. ويُصيب أيضاً، من يقول إن هناك ضرورة لتجاوز الحرب الأهليّة بكلّ ما أنتجته، وأن لا عداء في السياسة بل خصومة. عيب الذاكرة اللبنانيّة الضعيفة، يكاد يكون فضيلة في كثير من الأحيان. فلولاه، لمات اللبنانيون من القهر. قهر انهيار مؤسسات الدولة وخدماتها العامة، واستبدالها باحتكارات خاصة في الكهرباء والتعليم والمياه والطبابة. وقهر الوراثة السياسيّة التي تجعلنا، أشبه بأملاك خاصة، يتناقلها هؤلاء من الجد للابن للحفيد، من دون حتى دفع ضريبة حصر إرث.
لكن، هذا الاتهام ليس دقيقاً بالمعنى الكامل. من يُراقب حركة أمل وحزب الله، يشعر وأن جمهور الطرفين واحدٌ. هو كذلك مع "العدو الخارجي"، وخصوصاً إذا كان هذا "العدو" من طائفة أخرى. لكن من يبحث قليلاً، يُدرك أن جرح "حرب الإخوة" أو حرب الإقليم في نهاية ثمانينيات القرن الماضي لم ينتهِ بعد. يظهر "قيح" هذا الجرح، مع كل صراع "داخل البيت الشيعي"، ويختفي في لحظة الصراع مع الخارج.
من هذه الزاوية يُمكن قراءة تفاهم عون ــ جعجع. هو تفاهم بوجه الآخر في البلد، وليس داخل "البيت المسيحي". هو تكريس لنظرية "التقوقع" داخل الطائفة. فالتفاهم، لم ينطلق من منطلقات وطنية. والأهم، فإن هذا التفاهم، لم يؤسس له على مبدأ الاعتراف بجريمة الحرب التي اقترفها الطرفان في حروبهما، وطلب المسامحة من الضحايا. تفاهم عون وجعجع، هو النسخة المسيحية لاتفاق الطائف وما تلاه، من مصالحات شكليّة، لم تنهِ الحرب الأهليّة فعلياً، وبقي جرحها ينزف مفقودين ومقابر جماعية غير معلنة، وإدارة سياسيّة مرتبكة ووراثة سياسيّة وهدراً وفساداً في مؤسسات الدولة، وضرباً للإقطاع الذي كان حاكماً قبل الحرب، إلا في الحالة الدرزية.
يحق للقواتيين والعونيين الاحتفال بمشهد التفاهم. ويحق لهم الرد على منتقديهم بأنهم يطوون صفحة الحرب. ويخطئ من يُذكّر الزعيمين، بجرائمهما، بدل مطالبتهما بكشف الحقيقة ومصارحة الناس. مبروك للقواتيين والعونيين الدخول في النظام اللبناني ولو متأخرين بضع سنوات، بسبب السجن والنفي. والعزاء لمن لا يزال يتمسّك بالدولة ومؤسساتها، فما جرى تكريس لمبدأ الاتفاقات التي تتجاوز المؤسسات الدستورية.