03 ديسمبر 2016
الذي عاش مرتين!
لم يصدق أحد بعد أن فرغت المدينة، كل المدينة، من دفنه، أنه كان خريج جامعتين، إحداهما عسكرية، ألهمته صلابته ورباطة جأشه المعهودة، والثانية كلية الآداب قسم اللغة العربية، ومنها رقّ طبعه وحسنت سيرته بين الناس.
عرفته مدينته الوادعة مثله، بحسن عشرته وطيب طباعه، مسالما ضحوكا مستبشرا. وكما يعرفه الجميع، فهو فلاح من نوع خاص، أحال عشرات الدونمات الصحراوية التي تملكها عائلته إلى جنة خضراء، وكان بستانه الذي شيده بيده مصدر حسد بقية فلاحي المنطقة.
رغم أن ملامحة الحادة والتي تشي بصلابة رجل عرف الحياة وعركها، وسمرة بشرته التي أحرقتها الشمس، إلا أنه كان مسالما يألف ويؤلف، وله شبكة علاقة واسعة، وأصحابه يقصدونه أوقات المساء كونهم على علم بأنه منشغل طوال يومه بالزراعة، يقضون معه ساعات متواصلة من الضحك، وأكل ما لذ وطاب من ثمار جنته على الأرض.
بعد تخرجة من كلية الآداب جامعة البصرة قسم اللغة العربية، كانت الحرب العراقية الإيرانية قد اشتعلت، التحق من فوره بصفوف الجيش العراقي برتبة ملازم.
كانت حياته عبارة عن انضباط عسكري ليس له مثيل كما يقول زملاؤه، فالبزّة العسكرية العراقية كانت كأنها فصّلت من أجله فحسب، وهو يتمتع بجسم رياضي مثالي، ومشيته وتأديته للمراسم العسكرية كانت تلفت نظر كل رؤسائه وزملائه، فهو عسكري بكل ذرات جسمه، كما يقول زميله الملازم أول عدنان الذي كان يرافقه في مستشفى الرشيد العسكري.
تنقل رحمه الله في عدة وحدات عسكرية، وكان يترك أثرا في كل مكان ينزل ويرتحل منه، وبكل وحدة عسكرية يفد إليها. بقي على ذلك أربع سنوات وترفع خلالها إلى رتبة ملازم أول وماتزال الحرب مستعرة.
وفي إحدى المعارك التي اشتبكت فيها وحدته مع إحدى الوحدات الإيرانية بالسلاح الأبيض، وبعد كسب هذه المعركة جاءت الأوامر بإخلاء الجرحى، وتطوع بأن ينزل إلى الوادي ليسعف من يمكن إسعافه من جنود وحدته المصابين، وكان هذا الوادي يفصل بينهم وبين العدو حينها.
ورغم امتناع الكثير عن أداء هذه المهمة وتحذيرات زملائه له بأن القوات الإيرانية مسيطرة بالكامل على هذا الوادي، وأنه سيكون ضمن مرمى نيرانها ، إلا أنه وكعادته لم يصغ لأحد. فهذا موقف من الممكن ان ينقذ به حياة العشرات من زملائه، ولن يسمح لأحد أن يمنعه من نيل هذا الشرف.
وفعلا نزل إلى الوادي وشرع بنقل الجرحى وأنقذ عشرة منهم قبل أن يتلقى خمس رصاصات في مختلف أنحاء جسمه، منعته من الحركة، وأخذ النزيف منه كل مأخذ، ولم يستطع أحد إنقاذه حتى حلول الليل وتم إخلاؤه بعدها.
ووصل إلى المستشفى وأجريت له بعدها عدة عمليات استمرت حوالي عشر سنوات بعد نهاية الحرب، عانى خلالها كثيرا، وأكثر إصاباته كانت في الساقين. أحيل بعدها إلى التقاعد، وظل حبيس المرض سنوات.
بعدما تماثل للشفاء، عاد إلى مزرعته التي شيدها بيديه رغم إصابته. ورفض العمل بأي وظيفية حكومية رغم ولعه الشديد باللغة العربية وتدريسها، لكنه عاش سنوات عمره المتبقية بين أشجاره وزرعه. يرى العالم من خلالها ويروه الناس من عمله ونتاج بستانه الذي بدء يكبر بشكل ملفت.
ولم تنقطع علاقته بأصدقائه من مختلف محافظات العراق، وهم يروون في كل زيارة لهم بطولاته التي سطرها رغم قصر خدمته في السلك العسكري، وبعد احتلال العراق وتغير الأحوال اجتهد على نفسه بالعمل في مزرعته، وبعد تزايد الهموم وكثرة الفواجع نسي الناس وربما نسي هو أنه ليس فلاحا بالأصل، لكنه استمر بذلك، خصوصا بعد أن أفقدته الحرب أخاه البكر حينما كان ضمن صفوف الجيش الشعبي، وأفقده احتلال العراق أخاه الأصغر العقيد كريم بلغم أرضي على يد عصابات دخلت العراق بعد عام 2003.
حزن حزنا لم يشهده أحد ولم يعرف له أحد تفسيراً ، كيف لا يحزن وهو المرهف المتشظي إحساسا ورقة وعذوبة. مرت الأيام بطيئة حزينة. وجاء رمضان عام 2013. وكعادته، يخرج بعد صلاة الفجر ليتفقد مزرعته ويبقى حتى موعد صلاة الظهر ويصلي في المسجد الملاصق لمزرعته، ويعود لبيته لأخذ قيلولة بسيطة بانتظار موعد الإفطار.
صادف في يوم السابع عشر من رمضان، أن زاره أخو زوجته وهو أيضاً ابن خاله، ويشغل منصب مدير شرطة المدينة، وأفطر معه. بعدها، خرجا سوية لأداء صلاة العشاء والتراويح في المسجد القريب.
طلب المقدم من حمايته أن يذهبوا أمامه وينتظروه عند باب المسجد الذي لا يبعد سوى عشرات الأمتار ، وخرجا سوية يتمشيان في طريقهما إلى الصلاة.
هنا، يبدو أن جماعة مسلحة كانت تتابع المقدم لاغتياله، وهما يبعدان مائة متر فقط عن البيت. اقتربت منهم دراجة هوائية، وبينما هما مندمجان في الحديث، خرجت رصاصة مباشرة من الدراجة التي كان يستقلها مسلحان فأصابت رأس المقدم إسماعيل، وسقط ميتاً من فوره.
تمّ الأمر في لحظات ولم تتوقف الدراجة النارية، بل استمرت في مسيرها مسرعة جداً هذه المرة، وبين ذهوله رحمه الله وبسالته المعهودة، أسرع خلفها محاولا اللحاق بها، إلا أنها كانت أسرع منه، فالتقط حجراً كبيراً ورماه نحوها أصاب به سائقها.
وهنا، توقفت الدراجة ومن عليها غصباً، وهو يواصل الجري مسرعاً نحوها. باغتهما وأسقطهما من فوق الدراجة، بعد معركة استمرت دقائق بين رجلين مسلحين بمسدسات كاتمة للصوت ومستعدّين لقتل أي شخص يعترضهما.
في نهاية الأمر، استطاع أن يجردهما من سلاحهما. وهنا ظهر أن هناك مسلحا آخر كانت مهمته أن يشرف على إتمام عملية الاغتيال. وصل إلى مكان الحادث الذي كان يخلو إلا من مبانٍ بسيطة، وفي الجهة المقابلة، مزرعة الفقيد، والظلام يخيم على المنطقة وكان أغلب الناس قد دخلوا المسجد؛ فوقت صلاة العشاء كان قد فات عليه خمس دقائق تقريباً، وباشره المسلح من دون أن ينتبه له برصاصتين في الكتف، اخترقت إحداها القلب، وأفلت المسلحون من قبضته.
وبدأ رحمه الله يصرخ بالشهادتين بأعلى صوته، حتى سمعه بعض المارة، وقاموا بنقله هو وابن خاله الشهيد إلى مستشفى المدينة الوحيد، وظل يعالج رحمه الله ساعات هناك، حتى فارق الحياة.
تفاصيل هذه الحادثة رواها المحققون بعد إجراء كشف في اليوم التالي على موقع الحادث وأماكن الإصابات ووقع آثار وخطوط الدماء التي ملأت المكان. وهنا سجل خيري حميد خنيفر رائعة أخرى من روائع الإيثار والشجاعة، لايزال الناس يذكرونها كل حين... فوفاته بهذه الطريقة عاش بها حياة أخرى في قلب كل من سمع بقصته، وتروي والدته أنه وابن خاله ولدا في ليلة واحدة.. واستشهدا في ليلة واحدة أيضا.