15 نوفمبر 2024
الراقصون فوق القبور
تكشف المحرقة السورية، يوماً بعد يوم، عن كمية من الحقد الأعمى المتجذر في نماذج عديدة موجودة على الساحة العربية. نماذج تتغنى بالقتل وتطرب لصور الجثث المنتشرة بين أنقاض المباني، وتهلل لمشهد أم تحتضن طفلها المنتشل من بين الركام، أو لأب يقف عاجزاً أمام جثامين أبنائه المسجّاة في المستشفى. لا يخجل هؤلاء من المجاهرة بآرائهم في العلن، وعلى منصات الإعلام ومواقع التواصل، ويجدون من يصفق لهم أيضاً، ويقاسمهم مشاعر الغبطة ذاتها التي ترافق الإعلان عن سقوط ضحايا جدد في المجزرة المرتكبة يومياً في الغوطة الشرقية لدمشق.
هذا المقدار من التشفّي تصادفه يومياً وأنت تتابع مشاهد الجريمة المرتكبة في الغوطة وأخبارها. تظن أن من الممكن النقاش مع هؤلاء، وتغيير أفكارهم، أو دفعهم على الأقل إلى التعاطي بإنسانيةٍ مع الحدث الذي لا يمكن أن تخطئه عين أو قلب. ثم تتذكر نقاشات سابقة وأجوبة معلبة كنت تتلقاها من هؤلاء "الممانعين". الإجابة الأولى، وقبل أي دخول في تفسيرات قومية وأيديولوجية، ستأتيك بأن "أطفال اليمن والبحرين أيضاً يُقتلون، فلماذا لم نسمع هذا القدر من التعاطف". عند هذه النقطة، يُفترض أن يقف النقاش، بدايةً لأن التضامن والنصرة لأطفال اليمن والبحرين قائمة، ومن منطلق إنساني غير سياسي، وهو ما يعبّر عنه الجميع، إذ لم نر يوماً أي طرف يتشفّى بالأطفال المقتولين بقصف التحالف العربي في اليمن بهذه الطريقة التي يتعاطى فيها هؤلاء مع قتل المدنيين في سورية عموماً، وليس في الغوطة حصراً. ثم كيف يمكن لهذا التبرير أن يكون منطقياً، فهل الاعتراض على قتل الأطفال في اليمن يكون بقتل الأطفال في سورية، وهل الفرح بهذه المجزرة يكون الرد على مجازر أخرى مرتكبة في اليمن أو البحرين أو العراق أو أي مكان آخر. لا بد أن يكون القتل مداناً بأشكاله كافة، فليس هناك قتل شرعي وآخر مدان.
التبرير الآخر الجاهز، والذي سمعناه في أكثر من مناسبة، ولا يزال يتردد يومياً، هو "محاربة الإرهاب" و"اتخاذ المدنيين دروعاً بشرية"، حتى جملة "هناك ضحايا في الحروب" لم نعد نسمعها، فلا يعتبر هؤلاء الأطفال والمدنيين ضحايا، هم شركاء في الحرب لمجرد وجودهم في المكان الخاضع لسيطرة هذا الطرف أو ذاك. تحاول تذكّر أين سمعت سابقاً التعابير نفسها حرفياً، فتقفز إلى ذهنك الحروب الإسرائيلية الكثيرة، داخل فلسطين وخارجها. هو المنطق نفسه الذي كان هؤلاء الممانعون يدينونه أيام القصف الإسرائيلي على قطاع غزة أو لبنان أو المداهمات في الضفة الغربية، أي "محاربة الإرهاب" و"اتخاذ المدنيين دروعاً بشرية". وفق هذا المنطق الذي يتبناه الممانعون، من الممكن التبرير لإسرائيل قتلها المدنيين في فلسطين ولبنان، ما دام يأتي في إطار ما تسميه إسرائيل "إرهاباً". ولعل حالة تبرير المحرقة في الغوطة هي أكثر ما يتشابه حالياً مع المنطق الإسرائيلي في تعاطيه مع غزة، إذ إن ذريعة القصف اليومي هو وقف إطلاق قذائف الهاون من الغوطة على أحياء دمشق، وهو ما تفعله إسرائيل أيضاً لوقف إطلاق الصواريخ من قطاع غزة على المستوطنات المجاورة، مع فارق أن عدد الضحايا في الغوطة أكبر بكثير من كل حروب إسرائيل على غزة.
لن تكون صياغة كل ديباجات الرد هذه صالحة للتعاطي مع هؤلاء الممانعين الذين احترفوا الرقص فوق القبور، رافعين شعارات المقاومة والعروبة والوطن، ومعلنين "نصراً قريباً" على جثث الأطفال.