يفجر الجزائريون طاقاتهم الرومانسية خلال شهر مارس/ آذار بخروجهم الجماعي إلى الغابات والساحات الخضراء، ولهم في ذلك طقوس وعادات يتوارثونها عبر الأجيال.
أعداد كبيرة من الأهالي من الجنسين مسنّين وشباباً وأطفالاً تخرج من بيوتها، بل إنّ بعضهم يصحب كلابه وعصافيره. أما الهدف من هذا الخروج الكبير فهو "الهرب من السلطة القاسية للإسمنت والجدران والضجيج، إلى السلطة الهانئة للطبيعة والألوان والهدوء" بحسب الشاب بغداد في وادي حمّام في حجر (500 كيلومتر إلى الغرب من الجزائر العاصمة).
في المكان عشرات العائلات التي خرجت بكلّ أفرادها إلى جنبات الوادي، مصحوبةً بتجهيزات الشواء والمأكولات الجاهزة والأفرشة والكراسي الصغيرة، بعد ركن سياراتها في الجوار. رائحة اللحم المشوي تمتزج برائحة الزهور والصعتر والأعشاب البرية، فتبعث في النفوس إحساساً مميزاً.
يقول الممثل المسرحي بوتشيش بوحجر لـ"العربي الجديد" إنّ الجزائري يعيش مخنوقاً على مدار الشهور الأخرى، في مدن باتت تشبه العلب المغلقة: "ألا يحق لتجمع سكني يتجاوز عدد سكانه خمسة آلاف أن يضمّ مساحة خضراء تستوعب الراغبين في التنفس واللعب من الكبار والصغار؟ فكيف إذا تجاوز عدد السكان ربع مليون وما فوق؟".
من هنا، يعتبر بوتشيش المتخصّص في علم النفس أيضاً أنّ شهر مارس خصوصاً بات خلال الأسبوعين اللذين يشكلان العطلة الربيعية، محطةً يتحرّر فيها الجزائري من المساحات المغلقة الخالية من الجمال، ويسلم نفسه للطبيعة الثرية بالألوان والعطور والمناظر والأصوات المختلفة. يضيف: "على الهيئات الحكومية التي تخسر كثيراً من الوقت والجهد والمال في معالجة ظواهر العنف داخل المجتمع، ومنها ظاهرة العنف المدرسي وظاهرة العنف في الملاعب، أن تنتبه إلى أنّ خلوّ التجمعات السكنية من الحدائق والمنتجعات الطبيعية مساهم كبير في العنف".
على جنبات الوادي الذي ينحدر من محافظة سيدي بلعباس، كان شيوخ وكهول وشبان يرمون خيوط قصباتهم في الماء ليصطادوا السمك، وهم غارقون في الموسيقى والأحاديث. يقول أحدهم إنّ أحاديثهم تخلو من التبرّم والشكوى "عكس الأحاديث التي نتبادلها داخل المدينة، لأننّا هناك نشعر بالضغط جراء الضجيج والقمامة وازدحام الناس والسيارات". يعقّب آخر: "لقد تلوّثت حياتنا ودواخلنا، ما أخشاه أن يمتدّ التلوث إلى هذه الطبيعة العذراء، إذ قلة من الأنهار والسواقي والشواطئ ما زالت بعيدة عن التحول إلى مصبات لقنوات الصرف الصّحي". يسأل: "هل يجوز لنا أن نسمّيه صرفاً صحياً ما دام يصبّ في الطبيعة مباشرة؟".
في الحقول المحيطة بمدينة الأخضرية (وسط) يتعامل أفراد العائلات المربّعة (نسبة إلى الربيع واحتفاء به) بحميمية مع بعضهم البعض. هذه الحميمية ليست واضحة إلى هذا الحدّ في العائلات الجزائرية، بين الصغير والكبير وبين الزوج وزوجته وبين الكنّة وحماتها. يعترف عبد القادر جعدي: "قلما يجتمع أفراد أسرتي على المائدة في الوقت نفسه، كما أنّ جرعة الحميمية والانسجام بينهم خاضعة للأمزجة والظروف، عكس ما هو موجود هنا في الخلاء". يضيف: "نتصرف هنا كما لو كنّا في عرس، فتذوب المشاحنات والتشنجات السيئة".
كذلك، تظهر هذه الحميمية والانفتاح على الآخرين بين العائلات التي قد لا يعرف بعضها بعضاً في الأصل، إذ تتبادل الأطباق والأحاديث والتقاط الصور، بما في ذلك بين الشبّان والفتيات، وهو ما يمكن أن يشكل مقدمةً لصداقة عائلية، عادةً ما تتطوّر إلى زيارات متبادلة. وتشير لوحات السيارات في المكان إلى تواجد أبناء عدة محافظات منها البويرة وبومرداس وتيزي وزو والجزائر العاصمة. تقول الشابة الجامعية وردة ب. إنّ الجزائريين في الأصل مستعدون لربط علاقات جديدة في ما بينهم "لكنّ ظروف العيش الصعبة، ومخلّفات مرحلة العنف والإرهاب، عملت على تغليب روح التحفّظ".
تبلغ هذه الفسحات العائلية ذروتها، خصوصاً في الشرق الجزائري، اليوم في الحادي والعشرين من مارس، في إطار ما يُسمى بالأمازيغية "شاوْ ربيع" أي مطلع الربيع، فتتحول إلى مهرجان شعبي متكامل الأركان، يُلبس فيه الجديد ويُؤكل اللذيذ، وتطلق الزغاريد، ويصعب أن تجد موطأ قدم خالياً، في المساحات الخضراء المحيطة بالمدن والقرى.
تكشف الحاجّة فاطمة، من منطقة مجّانة، عن طقوس التظاهرة: "تلتقي نساء الأسرة على إعداد أكلة المُبَرَّجة من السميد والزيت والتمر المعجون، وطبخها على نار هادئة فوق كانون الجمر. ويشتري الرجال قفافاً صغيرة للأطفال، تُملأ بالحلويات والمبرَّجة والفواكه، لتكون رفيقتهم إلى الحقول مع أسرهم. ويرددون جميعاً أغنيةً مطلعها: شاو ربيع الربعاني وين تروح تلقاني".
تضيف: "عادةً ما تلتقي الأسر الفرعية في البيت الكبير للعائلة، وتنطلق منه لإحياء شاو ربيع في الخلاء". تبدي الخالة فاطمة فرحتها العميقة بكون هذه العادة نجت من الانكماش الذي باتت تعرفه موروثات أخرى: "وما يثلج الصدر أنّ الجيل الجديد بات أكثر حرصاً عليها من الجيل القديم".
اقــرأ أيضاً
أعداد كبيرة من الأهالي من الجنسين مسنّين وشباباً وأطفالاً تخرج من بيوتها، بل إنّ بعضهم يصحب كلابه وعصافيره. أما الهدف من هذا الخروج الكبير فهو "الهرب من السلطة القاسية للإسمنت والجدران والضجيج، إلى السلطة الهانئة للطبيعة والألوان والهدوء" بحسب الشاب بغداد في وادي حمّام في حجر (500 كيلومتر إلى الغرب من الجزائر العاصمة).
في المكان عشرات العائلات التي خرجت بكلّ أفرادها إلى جنبات الوادي، مصحوبةً بتجهيزات الشواء والمأكولات الجاهزة والأفرشة والكراسي الصغيرة، بعد ركن سياراتها في الجوار. رائحة اللحم المشوي تمتزج برائحة الزهور والصعتر والأعشاب البرية، فتبعث في النفوس إحساساً مميزاً.
يقول الممثل المسرحي بوتشيش بوحجر لـ"العربي الجديد" إنّ الجزائري يعيش مخنوقاً على مدار الشهور الأخرى، في مدن باتت تشبه العلب المغلقة: "ألا يحق لتجمع سكني يتجاوز عدد سكانه خمسة آلاف أن يضمّ مساحة خضراء تستوعب الراغبين في التنفس واللعب من الكبار والصغار؟ فكيف إذا تجاوز عدد السكان ربع مليون وما فوق؟".
من هنا، يعتبر بوتشيش المتخصّص في علم النفس أيضاً أنّ شهر مارس خصوصاً بات خلال الأسبوعين اللذين يشكلان العطلة الربيعية، محطةً يتحرّر فيها الجزائري من المساحات المغلقة الخالية من الجمال، ويسلم نفسه للطبيعة الثرية بالألوان والعطور والمناظر والأصوات المختلفة. يضيف: "على الهيئات الحكومية التي تخسر كثيراً من الوقت والجهد والمال في معالجة ظواهر العنف داخل المجتمع، ومنها ظاهرة العنف المدرسي وظاهرة العنف في الملاعب، أن تنتبه إلى أنّ خلوّ التجمعات السكنية من الحدائق والمنتجعات الطبيعية مساهم كبير في العنف".
على جنبات الوادي الذي ينحدر من محافظة سيدي بلعباس، كان شيوخ وكهول وشبان يرمون خيوط قصباتهم في الماء ليصطادوا السمك، وهم غارقون في الموسيقى والأحاديث. يقول أحدهم إنّ أحاديثهم تخلو من التبرّم والشكوى "عكس الأحاديث التي نتبادلها داخل المدينة، لأننّا هناك نشعر بالضغط جراء الضجيج والقمامة وازدحام الناس والسيارات". يعقّب آخر: "لقد تلوّثت حياتنا ودواخلنا، ما أخشاه أن يمتدّ التلوث إلى هذه الطبيعة العذراء، إذ قلة من الأنهار والسواقي والشواطئ ما زالت بعيدة عن التحول إلى مصبات لقنوات الصرف الصّحي". يسأل: "هل يجوز لنا أن نسمّيه صرفاً صحياً ما دام يصبّ في الطبيعة مباشرة؟".
في الحقول المحيطة بمدينة الأخضرية (وسط) يتعامل أفراد العائلات المربّعة (نسبة إلى الربيع واحتفاء به) بحميمية مع بعضهم البعض. هذه الحميمية ليست واضحة إلى هذا الحدّ في العائلات الجزائرية، بين الصغير والكبير وبين الزوج وزوجته وبين الكنّة وحماتها. يعترف عبد القادر جعدي: "قلما يجتمع أفراد أسرتي على المائدة في الوقت نفسه، كما أنّ جرعة الحميمية والانسجام بينهم خاضعة للأمزجة والظروف، عكس ما هو موجود هنا في الخلاء". يضيف: "نتصرف هنا كما لو كنّا في عرس، فتذوب المشاحنات والتشنجات السيئة".
كذلك، تظهر هذه الحميمية والانفتاح على الآخرين بين العائلات التي قد لا يعرف بعضها بعضاً في الأصل، إذ تتبادل الأطباق والأحاديث والتقاط الصور، بما في ذلك بين الشبّان والفتيات، وهو ما يمكن أن يشكل مقدمةً لصداقة عائلية، عادةً ما تتطوّر إلى زيارات متبادلة. وتشير لوحات السيارات في المكان إلى تواجد أبناء عدة محافظات منها البويرة وبومرداس وتيزي وزو والجزائر العاصمة. تقول الشابة الجامعية وردة ب. إنّ الجزائريين في الأصل مستعدون لربط علاقات جديدة في ما بينهم "لكنّ ظروف العيش الصعبة، ومخلّفات مرحلة العنف والإرهاب، عملت على تغليب روح التحفّظ".
تبلغ هذه الفسحات العائلية ذروتها، خصوصاً في الشرق الجزائري، اليوم في الحادي والعشرين من مارس، في إطار ما يُسمى بالأمازيغية "شاوْ ربيع" أي مطلع الربيع، فتتحول إلى مهرجان شعبي متكامل الأركان، يُلبس فيه الجديد ويُؤكل اللذيذ، وتطلق الزغاريد، ويصعب أن تجد موطأ قدم خالياً، في المساحات الخضراء المحيطة بالمدن والقرى.
تكشف الحاجّة فاطمة، من منطقة مجّانة، عن طقوس التظاهرة: "تلتقي نساء الأسرة على إعداد أكلة المُبَرَّجة من السميد والزيت والتمر المعجون، وطبخها على نار هادئة فوق كانون الجمر. ويشتري الرجال قفافاً صغيرة للأطفال، تُملأ بالحلويات والمبرَّجة والفواكه، لتكون رفيقتهم إلى الحقول مع أسرهم. ويرددون جميعاً أغنيةً مطلعها: شاو ربيع الربعاني وين تروح تلقاني".
تضيف: "عادةً ما تلتقي الأسر الفرعية في البيت الكبير للعائلة، وتنطلق منه لإحياء شاو ربيع في الخلاء". تبدي الخالة فاطمة فرحتها العميقة بكون هذه العادة نجت من الانكماش الذي باتت تعرفه موروثات أخرى: "وما يثلج الصدر أنّ الجيل الجديد بات أكثر حرصاً عليها من الجيل القديم".