الرحلة الغريبة
السادسة صباحاً، كنت في موعد رحلتي الغريبة. اتصال من أختي تخبرني فيه أن أمي في حالة سيئة، وكررت أكثر من مرة "لازم تجي". لم أعلم أن هذا آخر موعد لي، في حي جرمانا الدمشقي وبيتنا الجماعي. لم أخبر أحداً من أصدقائي بأنني في رحلة غريبة إلى منبج، لأنني أعلم أنهم لن يسمحوا بذهابي خوفاً من الموت، ولم أخبر جارتي الأرمنية التي هي بمثابة أمي، والتي يكون لنا من طبخها اليومي حصة، لأننا نذكّرها كما تقول بسورية القديمة، "يلي ماتت"، كوننا، في المنزل، شباباً من عدة مدن سورية. ركبت السيارة من الكراج، وتوجهت إلى منبج. وبعد 12 ساعة في الطريق، دخلت "دولة الخلافة الإسلامية، ولاية حلب، القاطع الشرقي، مدينة منبج". هكذا كُتب على مدخل مدينتي، منبج، كما أخبرتني نفسي أن والدتي توفيت، ولكن عائشة لم تخبرني، لكي لا أقلق على الطريق. أخذت أوزع أدوار العزاء بين الحواجز التي لا تعد ولا تحصى. وزعت الأدوار بيني وبين يامن أخي، وتذكّرت كيف دفنا أبي، رحمه الله، سوياً، عندما مات قبل الأزمة السورية في المشفى الجامعي في حلب، نتيجة خطأ طبي، لم نعلم وقتها ما هو، لكنه كان مريضاً بسرطان الكلية، وكيف وزعنا الكراسي داخل صحن دارنا العربي، وكيف أخذ أخي يامن يعمل، بعدها، لكي تستمر دراستي، وأصبح أستاذاً كما أراد والدي، وكيف أصبح هو الأب لي ولعائشة. قررت أن أساعده بالعمل، وأخبره بأن هنالك ست مواد فقط ليتخرج، لكنني أخرتها، متعمداً بسبب تأجيل الخدمة الإلزامية، وبعدها، أترك دمشق وأعمل في منبج مدرس فيزياء، وأتفرغ للعمل، وأساعده في إتمام متطلبات زواجه. طرقت باب المنزل، وكانت المفاجأة أن أمي هي من فتحت لي الباب، أمي عجوز كبرت 100 عام، ضمتني وبكت، وكأنني كنت ضائعاً منذ عقود، قلت لعائشة، وهي تسلم علي: إش في؟ قالت عائشة: يامن، يا محمد... يامن. قالت أمي لعائشة: أتركيه لاحق ع الهموم لاحق.
سألت عائشة: ليش شو في؟ شو صاير ليامن؟
-خذوه داعش، لأنه جيش حر.
-ليش داعش مو جيش حر معاهم لكتيبة يامن.
-والدتي: هذول حر! الله يحرق قلوبهم، مثل ما حرقوا قلبي.
-وينه حالياً؟
-في فرع الأمن الجنائي سابقاً. ذهبت وكانت عائشة تحضر لي الفطور، حتى أرجع من السجن والاستفسار عن يامن. وهناك طلبت رؤية المسؤول عن السجن، قال الحارس: وهو سعودي الجنسية من عبارته: وايش الأمير يشتغل عند والدك حتى تشوفه، إنت منو ومن تريد؟
-أخي يامن الأحمد معتقل عندكم.
-وانت أخوك يامن؟
-نعم
-ولا تعرف وايش مسوي أخوك؟
-لا أعلم؟ أخي جيش حر كان يقاتل النظام!
-تفتخر أنه أخوك جيش حر! أخوك كافر.
أصررت على لقاء الأمير. قال له ملثم آخر: خذ جواله وفتشه، وجدوا في الجوال صورة لعلم سورية "الأحمر"، ويعلم الجميع أن مثل هذه الصور بطاقة عبور حواجز دمشق الكثيرة، خصوصاً أن هويتي يشار فيها إلى أني من منبج "الإرهابية"، كما يقول شبيحة الدفاع الوطني.
ضربوني، وقالوا: شبيح كلب. ضربوني، ولم أدر من أين صارت تأتي الضربات. شبيح كلب، شبيح كلب، خذوه، قال أحدهم، خذوه على سجن النسوان، اسم مهجع كان النظام يضع النساء فيه، قبل تحويلهن إلى سجن آخر.