ارتفع شبك حديدي على كورنيش بيروت منذراً بمنع الوصول إلى البحر. نخسر معركة أخرى ونتفرّج على هزيمتنا صامتين. على البرّ وحش إسمنتي يرفع الأبنية الشاهقة نحو الغيوم فوق بيوت بيروت العتيقة، وفي البحر حوت يقضم شاطئ المدينة ويبتلع واحدة من آخر فسحات الهواء: "ميناء الدالية".
في المساحة بين "ميناء الدالية" في منطقة الروشة و"الحمام الفرنسي" في عين المريسة تعلّمت السباحة وصيد السمك بالقصبة. كان الريّس مصطفى الهنداوي، أبو فريد، البحريّ العتيق في الميناء، يعقد لي خيط النايلون الذي ينقطع كلما علقت الصنارة في الصّخر، بعد أن يضحك عالياً من الصيّاد الصغير "الهاوي" الذي لم تعلّمه المدرسة أصول الحياة.
في زمن آخر، كانت صوره بالأبيض والأسود، حمل أبو فريد مطرقة خشبية وإزميلاً من الحديد وراح يضرب في الصّخر البحري حتى خرجت من تحت ضرباته، بعد ثلاث سنوات، مغارة جعل منها مساحة قضى فيها معظم أيام حياته قرب حبيبه البحر. لم يتزوج ولم ينجب أطفالاً. اكتفى بالبحر جاراً مخلصاً وعائلة وحيدة.
جعل أبو فريد من المغارة التي نحتها بيديه قرب موج البحر، ومن المساحة التي حولها أرضاً له. فيها تعرّف إلى أصدقاء خاصم معظمهم لاحقاً. وفيها روى كيف تمركزت المقاومة الفلسطينية في محيط "ميناء الدالية" كي تمنع إنزالاً إسرائيلياً محتملاً خلال اجتياح عام 1982. وقد ينسجم ويروح يحدّث كيف كان يهرب إلى مغارته بعدما صار الميناء هدفاً للقذائف خلال الحرب بين قائد الجيش ميشال عون والقوات السورية التي رابطت في "ملعب النهضة" بمنطقة النادي العسكري.
قرب البحر خسر أبو فريد عينه، بعدما فقأتها مظلّة البحر عن طريق الخطأ. ومع هذا لم يحزن يوماً، بل ارتضى بكل ما كان المالح يحمله إليه.
عاشر الكثير من الناس وظلّ دائماً حذراً. اعتبر البحر معمودية الحياة. لا يصير الإنسان عالماً إلا إذا عاشره. عرف المنافقين والصادقين. وقضى أيامه الأخيرة في المنزل بعدما أعياه المرض وأفقده توازن الجسد، يحلم بالعودة إلى البحر ليبرّد وجهه الأسمر بمائه. وعندما مات ودفن في التراب، خرج صديق له بدعاء خاص. قال ثلاث كلمات لو سمعها أبو فريد لابتسم مطوّلاً: "فليجعل مثواه البحر". وقال آخر: "قد يعود يوماً على شكل سمكة".
مات أبو فريد مرّتين. الأولى، عندما فارقت روح البحري العتيق الجسد الكهل. أما الثانية، فعندما جاءت جرّافة عملاقة قبل فترة لتطمر "مغارته" البحرية، التي أورثها لأصدقائه كي تكون ذكراه الطيبة في نفوسهم.
الحوت مصرٌّ على أن يقضم الميناء وكلّ جميل فيه. يقولون إنه سيبتلعه كلّه قريباً ولن يبقي منه شيئاً. فالحوت يريد أن يبني مشروعه التجاري الخاص.
والحوت كبير مثل الموت. وكلاهما لا يشبع.