الزمن الجميل: جيل "الْبَاصبور لَخْضَرْ"

11 يناير 2015
+ الخط -

كانت هناك طيور مهاجرة، تمضي صوب الشمال خِماصاً لتعود بِطاناً. لم تكن تهتم بسؤال الرزق: لماذا هو هناك في الشمال الأشقر البارد الذي لا ينهض إلا لعمل؟ ولماذا لم يتيسّر في الوطن الحلم، وطن الاستقلال، حيث الشمس الدافئة، والصلاة خير من النوم والعمل معاً.
وقتها لم تكن الدولة، كما اليوم، قد انتبهت بعد لـ"ماركتينغ" العودة، لتؤطر تدفق المال الصعب صوب الوطن الكسول، قبل تكريم عرق المهاجرين؛ وقد "قُدّر" لهم ألا يعرقوا إلا في بلد الجليد والضباب. كانت الهجرة إلى الضفاف السعيدة فتنة حقيقية، تبدأ من محنة الجواز، وقد ارتقت به بيروقراطية الستينيات من القرن الماضي، إلى مصاف صكوك الغفران والدخول الى الجنة. وقتها، كان الحصول على عقد للعمل، في فرنسا خصوصاً، أسهل من الحصول على الجواز الوطني الأخضر.
عرف الشيخ حمد اليونسي البركاني، في أغنيته عن "الباسبور الأخضر"، كيف يُعبّر عن جيل من الشباب، لم يكن يرى له مستقبلاً، ولا حتى هوية، إلا في بلد الأنوار. طبعاً خارج كل مدارات فلسفة الأنوار، وأحقاد الأديان. كم أطربتنا رائعته، وهي تُبثّ طوال ساعات النهار في مقاهي الشاي والنعناع في وجدة. على الرغم من تجربة الاغتراب، بالجمع، المؤلمة في القصيدة، فإنها لم تكن، في الحقيقة، سوى دعوة لمقارنته بالاغتراب داخل الوطن، وبظلم ذوي القربى، حينما لا يرون في الشاب إلا مشروعاً لمهاجر عامل تُعلّق عليه كل الآمال والأحلام المادية. حتى بنت الجيران لم يكن لها من أمل، بعيداً عن الشاب الذي يغادر باكياً، ليعود في الصيف محمّلاً بالسعادة.
يعودون ليتحدثوا بلغة الخبرة الشعبية، وبكل التباهي البريء، عن أوطان أخرى، يشيع فيها دفء الأحضان، وليس وطء الأقدام. أوطان لا شيء فيها يحول دون الإنسان وحقوقه. أوطان لا يحرص فيها الناس على إغلاق منازلهم. كان هذا قبل أن تُحلّق الغربان في سماء المهجر، وتتكدّر الأنوار، ويحل الشاب المجاهد محل المهاجر العامل.
بدءاً من سبعينيات القرن الماضي، شرع خطاب العودة، المنبهر بأوروبا والمُغري بها، في التغيّر تدريجياً.
بدل الاستمرار في التمدّد صوب الحرية، ومتعة المواطنة الأوروبية، وبريق الحضارة، انزوى صوب الدين منتبذاً به مكاناً قصياً، حتى لا يذبحه الغربُ الكافر. ثم احتدّ الانحراف عن مركز الحضارة والحداثة، ليُؤثثَ خطابُ الغرب الكافر، بسباب الكفار "لعنهم الله".
حينما سمعتها، أول مرة، من قريب لي، ثارت ثائرتي لشدة جحوده ونكرانه أحضاناً بدّلت شقاءه هناءً وسعادة أسرية.
ما كان له، وهو المنقطع مبكراً عن الدراسة، والمنكفئ إلى فقر البادية، أن يكون له أي مستقبل خارج جنة "الباصبور لخضر". تأتي له بالعمل المربح، وأُطْعِم كرامة آدمية حد الشبع. تربى الأبناء في المدرسة العلمانية، حتى لا يكفّرهم أحد من الفرنسيين الخلّص؛ ثم تجنسوا وحازوا وظائف مهمة في مجتمعٍ يعتدّ بالمؤهلات الفردية، ولا شيء عداها.
فجأة، يُلقى بالمهندس "سنمار" من أعلى البرج الذي أبدع وأخلص في إعلاء عِماده. هكذا يصبح كافراً، هذا الغرب الذي لم يقصّر في استقبال كفار، بل لم يسأل، أصلاً، عن عقيدة أحد.
شيئاً فشيئاً تغيّرت حتى الأزياء، وبدأنا نستقبل مغاربة أوروبا وكأنهم من ساكنة "كابول"، وبعبوس كأنه قُدّ من جبال "تورا بورا". الْتَحت اللحية والكلام. بل حتى السيارة صارت لها أكثر من لحية وتعويذة لحمايتها من عيون الكفار.
مَن هزم الغرب، على الرغم من أنه وفّر كل بنيات الاندماج، في عقر سياساته وبرامجه؟ مَن أنسانا في مهاجري الستينيات، وكل قصائد الاغتراب عن الديار، والشوق الأبدي للوطن وأعراسه الصيفية؟ من أحلَّ الاغتراب الديني محل رباعيات الشيخة الريميتي الغلزانية، والشيخ العنقا، ونورة ورابح درياسة، ومعلّقات خليفي أحمد؟
حينما انتبهت وزارة الأوقاف المغربية، على عهد الوزير العلوي المدغري، إلى أن خبز المهجر أصبحت تخالطه وجبات الفقه الحنبلي المتشدد، كانت كل البنية اللوجستيكية التكفيرية قائمة في مواقعها عبر التراب الأوروبي كله، وفي أقصى درجات الإنتاج.
.. الله أكبر، قتلنا "شارلي إيبدو"، وكأن الرسول، صلّى الله عليه وسلم، بوزن الريشة، تؤذيه الخربشة والقشة، ولو سألت الأخوين كواشي عن أبجديات الدين، قبل فقه الجهاد، لما أجاباك. ومعهما نستعيد حكاية بائع السمك الأمي، الذي كاد يقتل نجيب محفوظ عن رائعته الروائية التي خوّلت للعالم العربي جائزة نوبل.
ولن نسألهما عن كعب ابن زهير، الذي عصى شعراً وتاب شعراً، فكانت "بانت سعاد" التي ألبسته بردة المصطفى، صلوات الله وسلامه عليه. ولن نسألهما عن عبد الله بن رواحة، وهو يقارع القريض الكافر بالقريض المسلم، بأمر من الرسول.
قتل الضيف الجائع مضيفه الكريم والمتسامح، الذي لم يفرض عليه أن يعيش معه في مساحات الحرية التي حازها بعد ثورة كبرى وقرون من البناء. قيم الخنوع والمذلّة الحضارية والاستبداد تنتفض في وجه جان دارك، وكل عنفوانها الثوري الذي أقسم ألا يطأطئ لأحد إلا جثة متهاوية. 
هكذا تؤدي فرنسا ثمن غفلتها، وهي لا تنتبه إلى أن إسلاماً رُفع من تراب الجمهورية العلمانية، تدريجياً، ليحلّ محله إسلام آخر. حتى السرية لم تكن مطلوبة في غياب الفهم الفرنسي العميق للدين. اليوم، تدير فرنسا إسلامها، وبين يديها شيوخ متقاعدون، هدّهم المرض والرطوبة. أما الشباب، فهناك مَن عرف كيف يستغل وجودهم في الأحياء الهامشية المهملة، ليجعل منهم تكفيريين حاقدين، حتى على آبائهم وأجدادهم.
هكذا تسرّب من بين أيدينا وأيديهم الزمن الجميل، ولم يعد أمام الجميع سوى خطاب الفواجع في الشرق، كما في الغرب.

 

6996357D-3338-414E-930A-F84D47A65269
6996357D-3338-414E-930A-F84D47A65269
رمضان مصباح الإدريسي (المغرب)
رمضان مصباح الإدريسي (المغرب)