أثارت زيارة الوفد البرلماني الفرنسي إلى دمشق ضجة إعلامية وسلسلة ردود فعل بين مندد ومعارض ومؤيد لها في كافة الأوساط، فهي الزيارة الأولى لمسؤولين فرنسيين إلى سورية، منذ أن تم إغلاق السفارة الفرنسية في دمشق في 2 مارس/آذار 2012.
الوفد الفرنسي ضم النائب عن حزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية" جاك ميار، والنائب الاشتراكي جيرار بابت، إضافة إلى السيناتور عن حزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية" جان بيار فيال، والسيناتور عن حزب "الاتحاد الديمقراطي المستقل" فرنسوا زوكيتو، والتقى الرئيس السوري بشار الأسد.
ويتمترس الوفد خلف وصف الزيارة بالخاصة، كي لا يحرج السلطات الفرنسية، التي ما فتئ مختلف مسؤوليها، بمن فيهم الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، يؤكدون "أنه لا اتصال ولا تواصل مع النظام السوري المسؤول عن الجرائم والمآسي التي يتعرض لها الشعب السوري". بل ويذهب المسؤولون الفرنسيون إلى حد "وضع النظام السوري مع تنظيمي داعش والنصرة في سلة واحدة".
ويُذكّر الرئيس الفرنسي في كل مناسبة بأن "للأميركيين مسؤولية فيما يحدث، بسبب رفضهم في آخر لحظة توجيه ضربات للنظام السوري، وإخلالهم بالمواقف التي كانوا أطلقوها منذ عام ونصف".
إقدام هؤلاء النواب الفرنسيين، وهم جميعاً أعضاء في مجموعة الصداقة الفرنسية-السورية، على هذه الزيارة يُعتبر "سابقة" في العلاقات السياسية بين البلدين، بعد القطيعة التي شهدتها العلاقات الدبلوماسية في عام 2012. وعلى الرغم من أنها "مهمة شخصية"، وتم التحضير لها خلال عدة أسابيع، إلا أنها لم تحظَ برضا وزارة الخارجية الفرنسية، إذ يُعتبر وزير الخارجية الفرنسية، لوران فابيوس، من أكثر الدبلوماسيين الفرنسيين تشدداً حيال نظام الأسد.
إلا أن الزيارة، وعلى الرغم من الإدانات التي صدرت، تمت بموافقة ومباركة من الرئاسة الفرنسية خلف الكواليس، كما أكد مصدر فرنسي مسؤول لـ"العربي الجديد"، الذي كان نشر خبر الزيارة الأسبوع الماضي، قبل أيام من توجّه الوفد إلى دمشق. وأضاف المسؤول أن هناك فريقاً يعتبر أن "القطيعة مع دمشق لم تحل المشاكل، وبالتالي سيكون من المفيد إرسال وفد من البرلمانيين للاستماع وإعادة فتح قنوات مع دمشق، خصوصاً في ظل فصل السلطات، التي لا تلزم زيارة الحكومة بموقف".
وأعلن ميارد أن "المحادثات مع الأسد دامت أكثر من ساعة، وكانت مهمة"، وأضاف أنه لا يعتقد "بإمكانية محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" من دون مشاركة سورية".
اقرأ أيضاً: طيران غامض فوق باريس: السلطات محرجة وتستبعد سيناريو "الإرهاب"
وإذا كان العضو الاشتراكي في الوفد، جيرارد بَابْت، قد حرص على عدم اللقاء بالأسد كما قال، فإن الأعضاء اليمينيين الآخرين دافعوا عن هذا اللقاء وعن توقيته ونتائجه. وقال ميارد من دون مناورة: "نحن جزءٌ من مجموعة، من اليمين واليسار، تعتقد أن موقفنا السياسي خاطئ"، مضيفاً "أعتقد أنه كان لا بد من لقاء الأسد حتى لو اختلفنا معه في الرأي"، كاشفاً أنه "أخبر من يتوجب إخباره"، أي المسؤولين الفرنسيين.
وعلى الرغم من أن المتحدث باسم الحكومة الفرنسية، ستيفان لوفول، رأى أن الأمر "لا يتعلق بزيارة رسمية"، في حين أن المتحدث باسم الشؤون الخارجية قال إن الزيارة لم تتمَّ بالتنسيق مع فابيوس، حتى وإن "تعلق الأمر بمبادرة برلمانية منسجمة مع مبدأ الفصل بين السلطات"، فإن صحيفة "لومانيتيه" تساءلت: "من هو الذي منح هؤلاء البرلمانيين الضوء الأخضر أو البرتقالي، بعد مبادرات عديدة أكثر رسمية لأجهزة الاستخبارات الفرنسية؟".
وقد بدأت الأمور تتضح بشكل أفضل، بعد تصريحات الطبقة السياسية الفرنسية، كاشفة رغبة وحماساً كبيرين من اليمين، بشقيه المتطرف والتقليدي، في الانفتاح على نظام الأسد، وإعادة العلاقات معه. فالعديد من مستشاري رئيسة "الجبهة الوطنية" مارين لوبين وقياديي حزبها، لا يخفون دعمهم للأسد وعلاقاتهم مع نظامه، كما أن عمدة مدينة بيزيي، روبرت مينارد، المقرب من لوبين، زار سورية في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2014 والتقى مسؤولين سوريين.
من جهته، أعلن القيادي اليميني، هنري غينو، المقرّب من الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، أنه "لا يجب معاقبة البرلمانيين الذين زاروا سورية"، وأضاف: "لا يمكننا أن نترك نظام الأسد جانباً، إذ لدينا عدو يحظى بالأولوية ويتمثل في داعش".
كما أن الوزير الأول اليميني السابق، فرانسوا فيون، أكد أنه "لو اُتيحتْ لي زيارة سورية لزرتُها"، وهما موقفان يعارضهما رئيس الوزراء الفرنسي السابق، ألان جوبيه، الذي لم يتوقف عن الحديث عن "نهاية" نظام بشار الأسد وأيضاً استبعاده من كل حل سياسي.
ويبدو أن الزيارة تسببت في حرج كبير للحكومة الفرنسية، تجاوَزَ المتوقع، ومن هنا يمكن قراءة ردود الفعل الرسمية المُعارضة للزيارة، وعلى رأسها تصريح هولاند من العاصمة مانيلا، الذي دان هذه الزيارة وهذا اللقاء مع "الديكتاتور السوري". وقبله كان موقف رئيس الوزراء، مانويل فالس، الذي وصف الزيارة بالشخصية واللقاء "بالجزَّار" الأسد "خطأ أخلاقياً".
كما أن المتحدث الرسمي باسم الحزب الاشتراكي، أوليفيه فور، أكد أن الزيارة "عمل خطيرٌ"، وأنه "لا مكان للحوار مع مُستبِدّ دمشق الذي استخدم السلاح الكيماوي ضد شعبه"، وأن على النائب الاشتراكي أن "يُقدّم تفسيرا لِمَا قام به في دمشق".
وإذا كان بابت، الذي شارك في كل نشاطات الوفد، عدا اللقاء مع الأسد، سيتعرّض لمساءلة من الحزب الاشتراكي، فهو يبدو واثقاً من موقفه ومن مبادرته، ويكشف أن حضور فرنسا في سورية باهتٌ إلى جانب الحضور الأميركي. معلناً أنه أخبر الجميع، في الحزب الاشتراكي والحكومة، بزيارته ونشاطاته مع وَعْد "أخلاقي" قدَّمَه لهم بعدم المشاركة في اللقاء مع الرئيس السوري.
وقد أثارت الزيارة حرجاً كبيراً للدبلوماسية الفرنسية، وهو ما يفسر ردود الفعل الغاضبة من أعلى مستويات السلطة الفرنسية. ولكن الإدانة العلنية للزيارة، على لسان هولاند وفالس وآخرين، لا تثني عدداً من الخبراء عن التأكيد على أن ذلك كله يهدف إلى عملية التغطية ليس إلا، من أجل حسابات داخلية وخارجية، في ضوء الضجة الإعلامية التي أثارتها هذه الزيارة.