تتجه روسيا لتتويج تدخلها في سورية ودورها الداعم لنظام بشار الأسد، منذ عام 2011، بتكريس مكاسب جيوسياسية على المدى الطويل، تحقق لها هيمنة مطلقة على الساحل السوري، ووجود عسكري دائم في منطقة البحر المتوسط، وفرض احتلالها لسورية، وتعزيز نفوذها الإقليمي والدولي بوجه الغرب. وتبدو الإدارة الرسمية الروسية بكافة مستوياتها، من الكرملين إلى وزارتي الخارجية والدفاع، والبرلمان، مستنفرة لقطف ثمار السياسة الروسية في سورية.
ووقع بوتين، الاتفاقية حول توسيع القاعدة البحرية في طرطوس، بحسب ما أعلن الكرملين أمس الجمعة في بيان. وذكر الكرملين أن توقيع الاتفاقية يؤدي إلى تنظيم "المسائل المتعلقة بتوسيع أراضي منشآت الأسطول الروسي في مرفأ طرطوس وتطويرها وتحديث بناها التحتية وكذلك دخول سفن حربية روسية إلى المياه والموانئ" السورية.
ورأى أحد أعضاء لجنة الشؤون الدولية في مجلس الاتحاد الروسي، السيناتور إيغور موروزوف، أن القاعدة البحرية في طرطوس، تعني زيادة عدد السفن العسكرية ليس في سورية وحسب، بل في الشرق الأوسط والبحر المتوسط بشكل عام. وأكد الرئيس السابق لهيئة الأركان العامة للأسطول الحربي الروسي، الأميرال فيكتور كرافتشينكو، أن القاعدة الجديدة في طرطوس سوف تحقق أهدافاً جيوسياسية، إضافة إلى الأهداف العسكرية المباشرة. وأوضح أن تطوير هذه القاعدة يعني "إنشاء بنية تحتية متكاملة، ليس في ما يخص السفن والمرافئ وحسب، بل إقامة منظومة كاملة للتحكم، ومنظومة حراسة ودفاع، ومنظومة للدفاع الجوي"، مشيراً إلى وجود توجه بقضي بإقامة نظام دفاع ضد الغواصات أيضاً، إضافة إلى نشر مجموعة كبيرة من القوات البرية في قاعدة طرطوس.
أبعاد الخطوة الروسية
ورأى رئيس المجلس العسكري الثوري السابق في حلب، العميد زاهر الساكت، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن سورية باتت بوابة روسيا للوصول إلى المياه الدافئة في المتوسط. وأشار إلى أن موسكو تريد إنشاء القاعدة في طرطوس على غرار قاعدة أنجرليك للقوات الأميركية وقوات حلف شمال الأطلسي في تركيا، لفرض نفسها لاعباً رئيسياً في الساحة السورية، وفي عموم المنطقة والعالم.
ولا يمكن فصل الخطوة الروسية بشأن قاعدة طرطوس عن سلّة متكاملة من التدابير العسكرية التي تتخذها روسيا في سورية لترسيخ وجودها وهيمنتها على المدى الطويل. وفي هذا المضمار، ذكر الساكت أن روسيا عمدت أيضاً إلى إعادة تأهيل مطار الضبعة العسكري في ريف حمص على غرار ما فعلت في مطار حميميم في الساحل السوري. ولفت إلى أن الروس مهتمون كثيراً بمطار الضبعة العسكري لأسباب كثيرة أهمها موقعه الاستراتيجي الذي يتوسط البلاد، فضلاً عن أنه محمي من جميع الجهات، ويستطيع الروس العمل منه بدرجة عالية من الأمان بعيداً عن مناطق سيطرة فصائل المعارضة السورية.
يشار إلى أن المراقبين يؤكدون أن تطلع روسيا إلى بناء وجود عسكري دائم لها في منطقة البحر المتوسط قد يكون أحد أسباب تمسكها بدعم نظام الأسد، ومقاومة الضغوط الغربية للتخلي عنه. غير أن الساكت اعتبر أن الروس وإن كانوا يخططون للبقاء عقود طويلة مقبلة في سورية، إلا أنهم لا يرهنون بقاءهم بدوام حكم الأسد. ويضيف أنهم مستعدون للتخلي عنه مقابل الحفاظ على مصالحهم ووجودهم في سورية، بحسب قوله.
ويلفت بعض المراقبين إلى أن ما يسمى بمركز الإمداد المادي والتقني الروسي الموجود حالياً في طرطوس متواضع نسبياً، ولا يقوى على استقبال السفن الكبيرة، إذ أن الميناء ليس عميقاً بما فيه الكفاية، وتعوزه الإمكانات الفنية. وحسب الخبير في مركز الشرق الأوسط في أكاديمية العلوم الروسية، ألكسندر فيلونيوك، إن هذا المركز عبارة عن مساحة صغيرة على الساحل، وهو من بقايا وجود الاتحاد السوفياتي السابق في سورية، وترسو فيه السفن للتزود بالوقود والبضائع، ويوجد فيه مبان للتخزين ومستودعات عائمة وباخرة صيانة يعمل فيها نحو خمسين بحاراً روسياً، بحسب قوله. وكان أقيم هذا المركز بناء على اتفاق أبرم سنة 1971 حين كان للاتحاد السوفياتي أسطولاً في المتوسط، وورثته روسيا بعد تفكك الاتحاد.
وبحسب تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية، تُسْتعمل طرطوس أيضاً من جانب الروس كمحطة أساسية للتجسس في المنطقة. ويشير التقرير إلى أنه قتل سنة 2010 مسؤول كبير في الاستخبارات العسكرية الروسية، الجنرال يوري يفانوف، في سورية بعد زيارة إلى طرطوس، كما غرق فيها مساعد قائد الاستخبارات العسكرية الروسية حين كان يسبح حسب الرواية الرسمية، لكن الظروف الدقيقة لوفاته لم تتضح.
جبلة وحميميم
وفي إطار التدابير الاستراتيجية التي تتخذها روسيا في سورية، لتوسيع نطاق هيمنتها، أعلنت أخيراً عن نيتها إنشاء قاعدة عسكرية ثانية لها في مدينة جبلة الساحلية لتضاف إلى قاعدة طرطوس البحرية. وهي ستكون أكثر تقدماً من قاعدة طرطوس بحسب مصادر روسية. وأفادت معطيات نشرتها وسائل الإعلام الروسية بأن القاعدة المزمع إقامتها في جبلة مخصصة لتأدية خدمات ومهمات لصالح القوات العسكرية الروسية ولصالح قوات النظام السوري. وستشكل بعداً عسكرياً متقدماً للقدرة العسكرية الروسية، إضافة إلى تقديمها خدمات استطلاعية لوجستية لصالح قوات النظام، الأمر الذي يؤكد تمسك روسيا بنظام الأسد، ويظهر أنها تبني خططها على فرضية بقائه في الحكم لأمد غير محدود.
وفي الخانة نفسها، كانت بعض المعلومات أشارت إلى أن الروس استلموا قاعدة اسطامو الجوية للحوامات بريف جبلة، بعدما أخلتها قوات النظام. وأراد الروس من خلال هذه الخطوة نشر مروحياتهم تلك القاعدة، للتقليل من عدد المروحيات الرابضة في مطار حميميم الذي بات يعجّ بالطائرات الحربية، وطائرات النقل العسكري والتأمين، فضلاً عن الحوّامات. وكانت قاعدة اسطامو للحوامات عبارة عن كتيبة دبابات، تقع شمال مطار حميميم بعدة كيلومترات. وتم تجهيزها بسرعة لتكون مطاراً مع دخول القوات الروسية إلى سورية في سبتمبر/أيلول 2015. واستخدم هذا المطار لنقل الطائرات التابعة للنظام السوري من مطار حميميم إليها بعد تسليم الأخير للقوات الروسية.
على أية حال، لا تزال قاعدة حميميم في مدينة اللاذقية هي الأبرز. ولا تقتصر أنشطتها على الجوانب العسكرية، بل تحولت إلى قاعدة فنية وسياسية. كما تقوم بمراقبة الهدنة في البلاد بين النظام والمعارضة. وعملت السلطات العسكرية الروسية على توسيع المطار القديم الذي يقع في قرية حميميم وسط الطريق بين مدينتَي جبلة والقرداحة. وأنشأت مدرج إقلاع جديد، ليكون الثاني في المطار. وقال محللون عسكريون إن روسيا أقامت في المطار محطة استطلاع استراتيجي حديثة، ذات قدرة كبيرة على الرصد واستقبال المعلومات. وتتصل هذه المحطة بمحطة الرصد الموجودة في مدينة صلنفة التي تديرها مجموعة من الضباط والخبراء الروس بمساعدة إيرانيين.
ولا يتوقف توسع الوجود العسكري الروسي في سورية عند هذا الحد. وقد هيمنت روسيا على قواعد عسكرية أخرى في أنحاء مختلفة من مناطق خاضعة لسيطرة نظام الأسد. وحسب مسؤول في وزارة الدفاع الأميركية، فإن المقاتلات الروسية تقلع اليوم من عدة قواعد في حماة وطياس والشعيرات، فضلاً عن أن عدداً من طواقم تشغيل منصات إطلاق الصواريخ وبطاريات المدفعية طويلة المدى منتشرة خارج القواعد. وأشار المسؤول الأميركي إلى أن معظم هذه القواعد تستخدم للطائرات المروحية القتالية، لافتاً إلى أن القاعدة الروسية في القامشلي تبعد نحو 50 كيلومتراً فقط عن المطار الذي تطوره واشنطن في بلدة رميلان بمحافظة الحسكة.
إلى ذلك، تحدثت مصادر إعلامية روسية عن عزم وزارة الدفاع الروسية إرسال كتيبتين مرابطتين في الشيشان إلى سورية لتأمين قاعدة حميميم. وقالت صحيفة "أزفيستيا" أن الكتيبتين المعنيتين يطلق عليهما اسم "القوات الخاصة الشيشانية" نظراً لتشكيلها بشكل أساسي من عسكريين لهم أصول شيشانية، منذ تأسيسهما عام 2003. وشارك أفراد الكتيبتين في العمليات ضد المسلحين في مناطق جبلية في الشيشان، وفي الحرب مع جورجيا في أغسطس/آب 2008، وتولوا تأمين خبراء إزالة الألغام الروس في لبنان عام 2006.
ونقلت الصحيفة عن مصادر بوزارة الدفاع الروسية أنه في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني، تم تحويل شكل الكتيبتين إلى شرطة عسكرية وتم تجهيزهما للتوجه إلى سورية لتولي حراسة المواقع العسكرية الروسية قبل نهاية هذا العام. وأوضح عضو الدوما الروسي، ليونيد كالاشنيكوف، أن إرسال قوات خاصة من الشيشان الروسية إلى سورية جاء بسبب "انسجام عناصرها في طبيعة التفكير والتقاليد مع السوريين، فضلاً الدور الذي ستلعبه هذه القوات في اقتفاء أثر المقاتلين في سورية المتحدرين من الشيشان".