28 سبتمبر 2020
الساروت يهدأ أخيراً
الآن يا صديقي، تفقد الأسئلة مرونتها، وتتراخى اللغة على جسدك المسجى بين حمص والجولان، كنت تحاصرنا من أول الثورة إلى آخر يوم، دون أن تهدأ ملامح وجهك، دون أن يشيب غناؤك، ودون أن يفقد صوتك براعته..
تحاصرنا لأننا لسنا في ظهرك، نسند غليانك، ونمسح دم الأخوة عن قميصك، كنا أعجز من أن نفهمك يا عبد الباسط، وأنت الملتبس والواضح، لم نعرف كيف تمشي في المدن السورية ثائراً من التراب إلى الأغنية، ومن الأغنية للبندقية، وكان صراخك هناك، يدفع الصمت والمدافع، ويتشظى في وجوهنا نحن ضحايا المسافة..
لم نكن ندرك ثورية الحناجر إلا في أغنيات الشعب، وكنت أغنية من الشعب، من الشارع والثورة، كنا نحن دائماً وسط الدهشة والخيبة، نرمي فعلنا على ظهرك وحدك، وكنت أنت دوما تحمله على كتف لا يقول تعبت.
لم تكن هنا لتشرح لنا الأسباب التي تدفع المرء إلى تجاوز لحظة الخوف الأولى، لم تعرف كيف تصوغ الإجابات التي يحتاجها المترفون بالعجز، كنت تملك الإجابة دون بحث ودون استجواب الراهن، ليس لفرط الوعي والتجربة، ولكن لأنك الأبسط في الأعقد، لأنك تغرف من الأرض، من كدحها وتعبها، من عرق الفلاح وقمح المزارع، من تواطؤ الفجر على أرصفة الذاكرة، من بندقية ثائرها ودم قتيلها، تغرف منا كي تصنع الأغنية، وتصرخ في المدى، خيلاً وخيالاً، وحقيقة في الدمع والأهازيج..
هل كنت تغني حقاً؟ هل تصدقنا القول لمرة واحدة وتخبرنا كيف نمت الأغنية في جراحك، كنت تربط شارعين معاً رغم الجند والعساكر بصراخك الممتد من الركام إلى المظاهرة، كنت تشد ظهر المكان، كيف نسميك اليوم، أو كيف نصف دورك في ثورة أصابتنا وأصابتك في أعنف الأزمنة؟
متعجلاً كالموت، تذهب الآن يا صمتنا الصارخ، وتبتعد قليلاً لتعود جثة على القمح، ونزفك في كل عواصم حزننا دون دمشق، وحمص عروسك التي انتظرتك نشيداً رغم الدخان، ترثيك بهدوء، لأن رثائك تهمة، كما كان النشيد سبباً تلاحقك عليه الطائرات والبراميل والرصاص..
الآن تقسمك نشرات الأخبار، بين القتيل والشهيد، ويشتمك ويشمت فيك من أقاموا أسفل الدبابة والأعلام الغازية، ويمتدحك ابن جرحك، سيقول كان الساروت دمي، كان صراخي، كان أول وآخر الحجارة، وحده الدمع يا صديقي الجريح المعافى ينصفك.
تحاصرنا لأننا لسنا في ظهرك، نسند غليانك، ونمسح دم الأخوة عن قميصك، كنا أعجز من أن نفهمك يا عبد الباسط، وأنت الملتبس والواضح، لم نعرف كيف تمشي في المدن السورية ثائراً من التراب إلى الأغنية، ومن الأغنية للبندقية، وكان صراخك هناك، يدفع الصمت والمدافع، ويتشظى في وجوهنا نحن ضحايا المسافة..
لم نكن ندرك ثورية الحناجر إلا في أغنيات الشعب، وكنت أغنية من الشعب، من الشارع والثورة، كنا نحن دائماً وسط الدهشة والخيبة، نرمي فعلنا على ظهرك وحدك، وكنت أنت دوما تحمله على كتف لا يقول تعبت.
لم تكن هنا لتشرح لنا الأسباب التي تدفع المرء إلى تجاوز لحظة الخوف الأولى، لم تعرف كيف تصوغ الإجابات التي يحتاجها المترفون بالعجز، كنت تملك الإجابة دون بحث ودون استجواب الراهن، ليس لفرط الوعي والتجربة، ولكن لأنك الأبسط في الأعقد، لأنك تغرف من الأرض، من كدحها وتعبها، من عرق الفلاح وقمح المزارع، من تواطؤ الفجر على أرصفة الذاكرة، من بندقية ثائرها ودم قتيلها، تغرف منا كي تصنع الأغنية، وتصرخ في المدى، خيلاً وخيالاً، وحقيقة في الدمع والأهازيج..
هل كنت تغني حقاً؟ هل تصدقنا القول لمرة واحدة وتخبرنا كيف نمت الأغنية في جراحك، كنت تربط شارعين معاً رغم الجند والعساكر بصراخك الممتد من الركام إلى المظاهرة، كنت تشد ظهر المكان، كيف نسميك اليوم، أو كيف نصف دورك في ثورة أصابتنا وأصابتك في أعنف الأزمنة؟
متعجلاً كالموت، تذهب الآن يا صمتنا الصارخ، وتبتعد قليلاً لتعود جثة على القمح، ونزفك في كل عواصم حزننا دون دمشق، وحمص عروسك التي انتظرتك نشيداً رغم الدخان، ترثيك بهدوء، لأن رثائك تهمة، كما كان النشيد سبباً تلاحقك عليه الطائرات والبراميل والرصاص..
الآن تقسمك نشرات الأخبار، بين القتيل والشهيد، ويشتمك ويشمت فيك من أقاموا أسفل الدبابة والأعلام الغازية، ويمتدحك ابن جرحك، سيقول كان الساروت دمي، كان صراخي، كان أول وآخر الحجارة، وحده الدمع يا صديقي الجريح المعافى ينصفك.