السباحة الراقصة

01 سبتمبر 2016
+ الخط -
ينتبه الملاحظ لما يجري من صُور الصراع، وأنماطها الحاصلة اليوم في العالم، أن المعارك تتواصل وتتناسل بصورة متواترة. أما إذا كان المُلاحظ يهتم بتسجيل رأي أو موقفٍ من الأحداث الجارية، فسيدرك أنه أصبح يعيش في عالمٍ مخيفٍ، تتشابه فيه الأحداث وتختلط المواقف. ولهذا، يتطلع أحياناً إلى البحث عن طريقٍ يخلصه من جحيم ما يرى ويسمع، لعله يتمكَّن من العثور على موضوعٍ، يتيح له استئناف متابعة ما يجري أمامه، بروحٍ تخلصه من سجن الرتابة الذي يقبض النفس.
حاصرتني هذه الفكرة، وأنا أتابع صور العنف التي تملأ جغرافيات عديدة في عالمٍ يتحوَّل، وذلك في وقتٍ انطلقت فيه مباريات الألعاب الأولمبية في ريو دي جانيرو، حيث وجدت نفسي منجذباً لمتابعة يومية لمبارياتٍ كثيرة في هذه الألعاب، مغفلاً الحروب المشتعلة في أكثر من منطقة في العالم ومنذ سنوات. وشَدَّنِي، ذات يوم، نَقْلٌ مباشرٌ لرياضةٍ تجري داخل المسبح، يتعلق الأمر بمنافسات السباحة الإيقاعية، وهي يقوم بها اثنان كما تقوم بها جماعة، حيث يقوم المتنافسون في هذه الرياضة بحركات راقصة داخل الماء، تكون مصحوبةً بإيقاعات موسيقية متنوعة، تختارها الفرق المتبارية، لتركيب لوحاتٍ فنية، تجمع بين الجمال في الحركة والإيقاع المصاحب لها.
ما لفت انتباهي، في البداية، إلى ما يجري أمامي، في قنوات التلفزة الناقلة وبصورة مباشرة لهذا النوع من المباريات، هو الأحاسيس التي كانت تنتابني، أحياناً، في عز الصيف، يتعلق الأمر بنوعٍ من الشعور بالوهن المرتبط عندي بعِلَلٍ جسدية، وهي عِلَلٌ تصبح أكثر جلاءً في الصيف، مقارنة مع باقي فصول السنة. فقد مكّنتني مباريات السباحة الإيقاعية التي حرصت على متابعتها إلى مقاومة بعض ضغوط الانكماش النفسي والجسدي التي تصيبني بين حينٍ وآخر، وسمحت لي بمعاينة إيقاعات الأجساد السابحة، محاولاً تجاوُز عِلَلِي الذاتية، وعلل مجتمعاتٍ لا أملك القدرة على التخلص منها.
رتبت برنامجاً يُخَلِّصُني من دوائر الصراع في المشرق العربي، ومختلف مظاهر الصراع في المغرب وفي العالم، وولجت أبواب الاهتمام بنموذجٍ آخر من الصراع الجميل الدائر في حلبة المسبح. يتعلق الأمر بالتنافس بين مجموعاتٍ من المتبارين حول أفضل الرَّقصات والإيقاعات داخل الماء، وقد نِلْتُ، مقابلَ ذلك، مُتعاً أتاحت لي مغادرة أحاسيس الوَهن، ومُعَانقَةَ حركاتٍ مُتَّسِقَةٍ يَمنحها رَذَاذُ الماء وحركته رونقاً ولمعاناً وسمات جمالية لا تُضَاهَى.
يُبدع كل فريقٍ من الفرق المتبارية، لحظة البداية والصعود إلى المسبح والوقوف أمامه، الأمر
الذي يسعف المشاهدين بمعاينة أشكالٍ عديدةٍ من كيفيات النزول إلى الماء. تبدأ لحظة أداء المشهد الراقص بكثيرٍ من الرقة والنعومة، وتَتَتَابَع فيها أنماط مختلفة من التفاعل مع إيقاعات الموسيقي المصاحبة لمشهد السباحة الراقصة، ثم يتواصل الإيقاع ويتصاعد، ثم يخفت ليتناثر تناثر الأعضاء المصحوبة برذاذ الماء المتطاير، إلا أن شيطان العادة تَدَخَّل في واحدةٍ من لحظات انخراطي في متعة المشاهدة، لِيُحَدِّثَني عن لباس الحشمة في المسابح، أقصد ما أثير من ضجيج مفتعل أخيراً بشأن "البوركيني"، حيث ظهرت، في بعض الشواطئ، ظاهرة السباحة بألبسة لا علاقة لها بلباس البحر، على الرغم من علاقتها بملابس الغطس في البحار والمحيطات، إلاّ أنني تخلَّصت بسرعةٍ مما دار ببالي، تخلَّصت من المعارك المصطنعة وتبعاتها، وواصلت التركيز على العروض الراقصة التي كانت تتم بملابس السباحة المعروفة، وقد أضفى عليها مصممو الأزياء ما حَوَّلَها إلى لوحاتٍ فنية، تكمل جوانب من مشاهد الرقص الممتزج بالإيقاع.
أدركت، وأنا أفكّر في المعارك المذكورة، أنني على أبواب العودة إلى مساحةٍ في النظر، كنت أروم الابتعاد عنها، فوجَّهت نظري صوب الحركات والإيقاعات، أي صوب اللوحات الفنية التي كانت ترسمها الفرق المتبارية على شاشة التلفزة، لأجد نفسي أمام تعبيراتٍ تجمع بين الأعضاء التي تخترق الماء، وحركته الحاصلة بفعل انتصاب الأعضاء واختراقهم سطحه، وما يُرافِق ذلك كله من إيقاعاتٍ موسيقية متسقة، وبجانب ذلك كله، ما يدور في ذهن الرائي، بفضل الإيحاءات المصاحِبة لفعل الرقص، أي ما يتصوره المشاهد، وهو يجمع في لقطةٍ واحدةٍ بين كل ما ذكرنا.
تحكي السباحة الإيقاعية وقائع بالحركات، حيث تبدو حركة الأرجل في لحظة وكأنها من دون أجسام، ويحصل، أحياناً أخرى، أن تبدو الحركة للرائي من دون حصولها، فأجساد السابحات تصنع بحركتها متعاً عديدة، يختلط فيها الممكن بالمستحيل، يتعلق الأمر بلغةٍ جديدةٍ يتم فيها نوع من التناغم والتكامُل واللعب، الأمر الذي يجعل المشاهد منبهراً بقدرات الجسد.
أدركت، في غمرة انشغالي بمباريات السباحة الراقصة، أنني بدأت أتخلص شيئاً فشيئاً من دوامة العنف المتواصل في مناطق عديدة من عالمنا، كما بدأت أتخلص من سطوة الأحاسيس المرتبطة بِعِلَلِي الذاتية. وإثر ذلك، قرّرت الدخول إلى أحد الأندية الرياضية المتخصصة في رياضة السباحة الراقصة.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".