يحمل الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي في رحلته إلى فرنسا، التي بدأها أمس الثلاثاء ويستكملها اليوم، سؤالاً مركزياً إلى أصدقاء تونس وشريكها الأول: هل أنتم فعلاً معنا؟
سؤال بسيط لعله يعود بالسبسي وفرنسا إلى أربعة أعوام مضت، حين شارك الرئيس التونسي، بصفته رئيس حكومة بداية الثورة، في قمة الثمانية في دوفيل الفرنسية وعاد بحزمة وعود لم يُنفَّذ منها شيء، غير أن السؤال نفسه يمكن أن يعود إلى أبعد من ذلك بكثير في الزمن ليختبر متانة العلاقات الفرنسية التونسية التي يشوبها برود واضح كلما صعد الاشتراكيون إلى الحكم.
فقد كانت تونس على اختلاف الأنظمة التي تتالت عليها، تميل إلى اليمين دائماً، كما أن اليمين الفرنسي بدوره يحتفظ بمكانة خاصة لتونس في سلّم مساعداته الخارجية، ولم يتمكن الاشتراكيون من تجاوز هذه العلاقات التاريخية التي رسمها الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة منذ بداية الاستقلال وبقيت على ما هي عليه دائماً.
ولا يخفي السبسي في تصريحاته الجانبية عندما يعود الحديث عن فرنسا، أن الاشتراكيين كانوا يتمنون فوز منافسه الرئيس السابق المنصف المرزوقي في الانتخابات الرئاسية، بل إنهم دعموه بحسب قوله.
ويعرف عدد من التونسيين أن الرئيس الفرنسي الحالي له علاقة متينة برئيس المجلس التأسيسي السابق مصطفى بن جعفر، وكذلك بالمرزوقي بحكم التقارب الفكري والسياسي والحقوقي، غير أن العلاقات بين الدول تستند إلى منهج مختلف عن التقارب الفكري، وهو ما يستغله السبسي بذكاء ويطرحه بوضوح خلال زيارته الفرنسية.
وقد أشار منذ أيام إلى أن "فرنسا أصبحت تفهم المسألة التونسية بشكل أفضل بعد حادثة باردو"، وأكد في أكثر من حديث صحافي لوسائل إعلام فرنسية أن تونس تحتاج لدعم أصدقائها "الذين يرغبون في ذلك"، ولكنها في المقابل "لا تريد أن تُحرج أحداً، وتعوّل على نفسها أساساً".
وفي رؤيته للعلاقات المتوسطية بشكل عام، يؤكد السبسي أن المتوسط ينبغي أن يكون فضاءً للحوار الثقافي ولا يتحوّل إلى حاجز بين الشمال والجنوب أو إلى مقبرة للشباب الذين إما يموتون في البحر أو "يتدعشون" في الصحراء، وكلاهما تهديد لشمال المتوسط وجنوبه.
وهي إشارة إلى كل الجيران بأن "البخل جنوباً" يؤدي أيضاً إلى المشاكل شمالاً، وألا أحد فوق التهديد الإرهابي أو بمعزل عنه، وهو ما تدركه فرنسا اليوم، وتفهمه بشكل أفضل بنظر السبسي.
اقرأ أيضاً: في ذكرى وفاة بورقيبة: هل يكون السبسي نسخة منه؟
وتحمل زيارة الدولة للرئيس التونسي أكثر من دلالة رمزية وسياسية، فهي من ناحية أعلى درجات الزيارات الرسمية، واتخذت في يومها الأول أمس الثلاثاء طابعاً يعكس هذا الاهتمام الفرنسي بالدور الموكل لتونس اليوم، فهي تحمل على كاهلها أهم أسئلة العالم اليوم، حوار الإسلام والديمقراطية الذي فرض نفسه على جدول أعمال الجميع من دون استئذان وحوّل الانتباه، فهو أولوية أمنية واستراتيجية للشرق أوسطيين، وللأوروبيين أيضاُ الذين يشارك المئات من شبابهم في أحداثه اليومية في سورية والعراق ودول أخرى عديدة اكتوت بنار الإرهاب العابر للقارات.
ويبدو أن عمق سؤال التطرف قد يجد بعض ملامح الإجابة عليه في تونس، التي نجحت بسرعة قياسية في إيجاد صيغة مختلفة ومعادلة سياسية وفكرية مقبولة في تصالح الإسلام مع الفكرة الديمقراطية.
وبقيت باريس على امتداد السنوات الأربع الماضية في موقف المتفرج على المشهد التونسي، تنتظر مآله، وتراقب تحرك الإسلام السياسي فيه من خلال حركة "النهضة" أساساً، ولم تبادر بدعم حقيقي للحكومات المتعاقبة، وأوقفت الدعم منذ صعود الترويكا إلى الحكم على الرغم من تطمينات أصدقائها، وهو ما دفع السبسي إلى القول إن أوروبا لا تفعل ما يكفي لتونس، وأنها طبعاً ليست في مكانة اليونان لأوروبا، على الرغم من أن تونس شريك استراتيجي للاتحاد الأوروبي، وأن فرنسا تأتي على رأس أكبر المبادلات التجارية والاستثمارات الخارجية مع تونس.
غير أن الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند يبدو اليوم في موقف المقتنع بأن على فرنسا أن تتحرك أكثر في اتجاه تونس وأن تخرج من سلبيتها التي دامت زهاء الأربع سنوات، خصوصاً بعد الآلام المشتركة ذاتها التي دفعتها تونس وباريس بعد الاعتداء عليهما معاً بنفس الطريقة وعلى يد ذات السلاح الذي لا يفرق.
غير أن هناك معطى موضوعياً آخر يدفع باريس إلى أن "تستفيق" بسرعة، فالمعروف عنها أنها اللاعب الأول في أفريقيا وشماله بالخصوص، غير أن الوضع أصبح مفتوحاً أمام الجميع وخصوصاً في ليبيا التي يقترن مستقبلها أيضاً بالتونسيين، فهم العمالة الأساسية هناك وغالباً ما عملوا بالوكالة لصالح شركات تونسية ثانوية تختفي وراءها شركات عالمية عملاقة. وتبدو فرنسا في الصف الثاني في الملف الليبي الذي تتسارع وتيرته في الفترة الأخيرة ويقترب، على الرغم من اشتداد المعارك، من ملامح حل قد يفتح على نهاية النفق وبالتالي إعادة الإعمار والبناء، وتونس بالنسبة إلى فرنسا بوابة رئيسية إليها.
غير أنها تحتاج إلى تنقية الفضاء الاستراتيجي المؤدي إليها، عبر منع تسرّب الإرهابيين وأسلحتهم إلى تونس والإجهاض على التجربة الوليدة التي تتمسك فرنسا ونخبها بضرورة نجاحها.
ويكتسي هذا اللقاء الفرنسي التونسي أهمية سياسية كبيرة قد تكون هامة تاريخياً أيضاً، ولكنها تطرح أكثر من سؤال، سيكون على الطرفين طرحه بصراحة والإجابة عليه بوضوح، وبسرعة أيضاً، لأن الوقت ليس في صالحهما.
اقرأ أيضاً: السبسي ووزير خارجيته وارتباك "البوصلة" ثالثهما