27 ديسمبر 2018
السعودية والحرب غير النظامية
مصعب الآلوسي
حتى قبل نهاية الحرب الباردة، تلقّت القوى العظمى دروسا قاسيةً في حروبٍ استنزفت خزائن الدول، وحصدت أرواح عديدين من جنودها، ففي فيتنام انسحب النسر الأميركي جرّاء المقاومة الشيوعية الفيتنامية، وفي أفغانستان لم تغن قسوة الدب الروسي عن خسارةٍ مذلّةٍ أجبرته على التقهقر إلى عرينه، بعد سنواتٍ عجافٍ في بلدٍ أطلق عليه مقبرة الإمبراطوريات. أما بعد هزيمة المعسكر الشيوعي، استنتج بعض القادة العسكريين الأميركيين عدم إمكانية هزيمة بلادهم عسكريا من أي دولة أو مجموعة دول، لكن الخطر المحدق هو الحرب غير النظامية، أي حرب جيش محترف يمتلك قوة عسكرية فائقة، ولديه قدرات نارية متطورة، ضد مجموعات مسلحة خارج نطاق الدولة. المعضلة في عدم إمكانية استهداف الجماعات المسلحة من دون تعريض أرواح المدنيين للخطر، بالإضافة إلى أن الحروب غير النظامية مكلفة، لأنها تستمر فترة طويلة. الأمثلة في العالم العربي عديدة، منها المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركي، وحرب حزب الله ضد إسرائيل، وما يدور منها الآن في مصر ضد المسلحين الهجوميين في سيناء، لكن أهم هذه الحروب اليوم في اليمن، حيث يجد التحالف، بقيادة السعودية، صعوبات عدة على المستويات، العسكري والاقتصادي والسياسي.
إحدى أهم المعضلات التي تواجه الجيوش في الحرب غير النظامية هي التكلفة الباهظة، والتي تزداد، بطبيعة الحال، مع استمرار الحرب. ليس التدخل العسكري السعودي في اليمن الأول من نوعه، ففي الحرب الأهلية اليمنية ما بين العامين 1962 و1965، دعمت السعودية الموالين للمملكة المتوكلية ضد القوات الموالية للجمهورية اليمنية، وتفادت إرسال جنودها في حربٍ مباشرة، كما تتفادى اليوم إرسال جنودها إلى المعارك الدائرة ضد جماعة الحوثيين، لأن
الجندي السعودي، بكل بساطة، لا يملك القدرة على خوض حرب شوارع ضد جماعةٍ متمرّسةٍ في القتال. ولذلك، تجاوز مجمل القتلى السعوديين ألفا بقليل، بسبب الاشتباكات الحدودية منذ عام 2015 في نجران وجزان وعسير. في المقابل، اكتفى الجيش السعودي بحملة جوية وحصار بحري لدعم القوات العسكرية الموالية لحكومة عبد ربه منصور هادي، والتكلفة ما تزال عالية.
بعد ثلاث سنوات على شنّ الحرب، تكبّدت السعودية خسائر تجاوزت مائة مليار دولار. وتذهب تقديراتٌ إلى أكثر من ذلك، حيث التكلفة الشهرية للحملة العسكرية السعودية بين خمسة وستة مليارات دولار شهريا، أي ما يعادل 180 مليارا إلى 216 مليار دولار، علما أن النهاية لا تزال بعيدة. ولا غرابة في ذلك، حيث تزيد تكلفة صاروخ أرض - جو مثلا إلى أكثر من عشرين ألف دولار، هذا ما عدا الدعم المباشر لقوات الشرعية من رواتب وذخيرة. وتزيد من تكلفة الحرب في اليمن الصواريخ الحوثية التي استهدفت الأراضي السعودية، ما سيؤثر على الاستثمار في المملكة، في حال إطلاق صواريخ أكثر دقة على مدن كالرياض، بالإضافة إلى سيناريو استمرارية استهداف الناقلات النفطية، كما حدث في أواخر يوليو/تموز الماضي. في المقابل، تكلفة الحرب غير النظامية بالنسبة إلى الجماعات المسلحة ضئيلة جدا، لأنهم في حالة دفاعية، ولأن الحسم العسكري محال في الوقت الراهن من الطرفين، ويدخل الصراع المنحى السياسي.
بحسب أحد أبرز المفكرين العسكريين، كارل فون كلاوسفيتز، الحرب وسيلةٌ تستخدم لأهداف سياسية. وعندما يصبح إخضاع الخصم عسكريا بعيد المنال، يضطر الطرفان أو أحدهما إلى اللجوء إلى المساومة السياسية، من دون تحقيق الهدف المنشود بالكامل. فيما يخص الحرب السعودية في اليمن، لم تستطع الرياض إخضاع الحوثيين عسكريا سنواتٍ. وبالنتيجة، لم تستطع فرض شروطها السياسية عليهم، فتضطر اليوم إلى محاولة التفاوض معهم. المشكلة الأساسية في الحل السياسي تكمن في التصورات الاستراتيجية التي يبني عليها الطرفان موقفيهما، واستحالة موافقتهما على القبول بحلول صعبة ومبنية على ثقةٍ متبادلة. لا يمكن للطرف السعودي إنهاء الصراع في اليمن، من دون التأكد من أن النظام السياسي في اليمن لن يكون حليفا لإيران، مهددا بذلك الأمن القومي السعودي. وفي المقابل، يدرك الحوثيون أن السعودية في موقفٍ صعب، ويزداد صعوبةً مع مرور الوقت، بسبب الضغط الدولي على السعودية، جرّاء الوضع الإنساني في اليمن.
من عوامل القوة لدى القوات غير النظامية، القدرة على الاختباء بين السكان، ما يشكّل معضلة للقوات النظامية، تتمثل في عدم القدرة على استهداف المجموعة المسلحة، من دون استهداف السكان ككل في بعض الأحيان. اختارت السعودية، في حرب اليمن، محاصرة السكان، ما أدى إلى أسوأ كارثة بشرية، بحسب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس. وذكرت الأمم المتحدة أرقاما مروّعة، منها حاجة ثلاثة أرباع سكان اليمن، أو ما يعادل 22 مليون شخص، الماسّة للمعونات الإنسانية، منهم أكثر من 11 مليون طفل معرّضين للمجاعة، ويعاني 16 مليونا نقصا في المياه. وتسبّبت الغارات الجوية، والتي تم فيها استخدام القنابل العنقودية المحظورة دوليا، إلى تدمير 246 مدرسة بالكامل، وقتل مدنيين عديدين، ما يمكن أن يرقى إلى جرائم حرب. وأدت هذه الكارثة الإنسانية إلى إضعاف الموقف الدبلوماسي السعودي، فدول مثل النرويج وألمانيا أوقفت بيع الأسلحة للأطراف المتصارعة في اليمن، وأدت إلى تحذيرات أميركية بشأن وقف المساعدات لدول التحالف، لكن السعودية غير قادرة، وعلى الرغم من التكلفة العالية، على الانسحاب من اليمن، بسبب الحسابات الجيوسياسية في المنطقة.
يضاف إلى ما سبق أن الحروب غير النظامية تصبح، في معظم الأحيان، ذات أبعاد إقليمية ودولية، فالسعودية اليوم تواجه الحوثيين في إطار تنافس إقليمي مع إيران، منذ عقود، على رقعة الشرق الأوسط. احترفت إيران الحرب بالوكالة، حتى قبل قيام الثورة في 1979،
ونجحت، بعد عملٍ دؤوبٍ، في نشر بيادقها في العراق وسورية ولبنان، ونفذت، منذ بداية التسعينيات، استراتيجيةً تضع نصب عينيها اليمن، من خلال دعم الحوثيين عقائديا وعسكريا. من المنظور الجيوسياسي، تجد الرياض نفسها في موقفٍ محرجٍ للغاية، لأنها غير قادرة على الحسم العسكري، ولا فرض حل سياسي. وفي المقابل، هي غير قادرة على إنهاء الحرب من طرف واحد، ما سيعني حصارا مطبقا على المملكة من الشمال والجنوب، من حلفاء إيران، لا بل أكثر من ذلك تصبح المدن السعودية تحت مرمى الصواريخ الإيرانية، في حال صدام عسكري يستهدف إيران. ودلالة على مدى خطورة الموقف السعودي، استهداف ناقلة النفط السعودية في البحر الأحمر من صواريخ الحوثيين، ما أدّى إلى إصابتها بأضرار، وإلى إيقاف تصدير النفط السعودي من خلال البحر الأحمر. ولتصريحات قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، في هذا الصدد، إن "البحر الأحمر لم يعد آمنا"، وإن لإيران "مضائق أخرى، وهرمز أحدها" رمزية على مدى نفوذ إيران في اليمن.
تنشب الحروب غير النظامية غالبا بسبب عوامل بنيوية في النظام السياسي. ولذلك تكون الحلول معقدة، والنهايات مخيبة لآمال الطرفين، لأنها تبنى على مساومات سياسية. ولذلك، يتخلل معظم الحروب النظامية النزيف الاقتصادي والدمار الاجتماعي والانسداد السياسي، والحرب في اليمن ليست مستثناة، فالسعودية تغوص في المستنقع اليمني، من دون أي مؤشراتٍ على نهايةٍ مرضيةٍ، تضمن سلامة الأمن القومي للأخيرة، لا بل سيتزايد خطر الحوثيين، بسبب الدعم الإيراني، وسيستمرّون في تشكيل عامل عدم استقرار على الحدود السعودية.
فشل السعودية في اليمن سبقه فشلها في إدراك خطورة وجود جماعة الحوثي، ومن خلفها إيران على حدودها. ولذلك جاءت مغامرتها العسكرية متأخرة جدا، ومكلفة على كل الأصعدة، والانخراط في حرب لها بداية وليست لها نهاية. وعلى الرغم من نفاق الحكومات الغربية إزاء المأساة الإنسانية في اليمن، جرّاء الحرب الدائرة، إلا أن الضغط الشعبي في ازدياد مضطرد، ما دفع ويدفع بعض الحكومات إلى نقد الحرب السعودية في اليمن. زد على ذلك الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها السعودية، ما ينذر بكارثة داخلية سعودية بعد الكارثة اليمنية.
إحدى أهم المعضلات التي تواجه الجيوش في الحرب غير النظامية هي التكلفة الباهظة، والتي تزداد، بطبيعة الحال، مع استمرار الحرب. ليس التدخل العسكري السعودي في اليمن الأول من نوعه، ففي الحرب الأهلية اليمنية ما بين العامين 1962 و1965، دعمت السعودية الموالين للمملكة المتوكلية ضد القوات الموالية للجمهورية اليمنية، وتفادت إرسال جنودها في حربٍ مباشرة، كما تتفادى اليوم إرسال جنودها إلى المعارك الدائرة ضد جماعة الحوثيين، لأن
بعد ثلاث سنوات على شنّ الحرب، تكبّدت السعودية خسائر تجاوزت مائة مليار دولار. وتذهب تقديراتٌ إلى أكثر من ذلك، حيث التكلفة الشهرية للحملة العسكرية السعودية بين خمسة وستة مليارات دولار شهريا، أي ما يعادل 180 مليارا إلى 216 مليار دولار، علما أن النهاية لا تزال بعيدة. ولا غرابة في ذلك، حيث تزيد تكلفة صاروخ أرض - جو مثلا إلى أكثر من عشرين ألف دولار، هذا ما عدا الدعم المباشر لقوات الشرعية من رواتب وذخيرة. وتزيد من تكلفة الحرب في اليمن الصواريخ الحوثية التي استهدفت الأراضي السعودية، ما سيؤثر على الاستثمار في المملكة، في حال إطلاق صواريخ أكثر دقة على مدن كالرياض، بالإضافة إلى سيناريو استمرارية استهداف الناقلات النفطية، كما حدث في أواخر يوليو/تموز الماضي. في المقابل، تكلفة الحرب غير النظامية بالنسبة إلى الجماعات المسلحة ضئيلة جدا، لأنهم في حالة دفاعية، ولأن الحسم العسكري محال في الوقت الراهن من الطرفين، ويدخل الصراع المنحى السياسي.
بحسب أحد أبرز المفكرين العسكريين، كارل فون كلاوسفيتز، الحرب وسيلةٌ تستخدم لأهداف سياسية. وعندما يصبح إخضاع الخصم عسكريا بعيد المنال، يضطر الطرفان أو أحدهما إلى اللجوء إلى المساومة السياسية، من دون تحقيق الهدف المنشود بالكامل. فيما يخص الحرب السعودية في اليمن، لم تستطع الرياض إخضاع الحوثيين عسكريا سنواتٍ. وبالنتيجة، لم تستطع فرض شروطها السياسية عليهم، فتضطر اليوم إلى محاولة التفاوض معهم. المشكلة الأساسية في الحل السياسي تكمن في التصورات الاستراتيجية التي يبني عليها الطرفان موقفيهما، واستحالة موافقتهما على القبول بحلول صعبة ومبنية على ثقةٍ متبادلة. لا يمكن للطرف السعودي إنهاء الصراع في اليمن، من دون التأكد من أن النظام السياسي في اليمن لن يكون حليفا لإيران، مهددا بذلك الأمن القومي السعودي. وفي المقابل، يدرك الحوثيون أن السعودية في موقفٍ صعب، ويزداد صعوبةً مع مرور الوقت، بسبب الضغط الدولي على السعودية، جرّاء الوضع الإنساني في اليمن.
من عوامل القوة لدى القوات غير النظامية، القدرة على الاختباء بين السكان، ما يشكّل معضلة للقوات النظامية، تتمثل في عدم القدرة على استهداف المجموعة المسلحة، من دون استهداف السكان ككل في بعض الأحيان. اختارت السعودية، في حرب اليمن، محاصرة السكان، ما أدى إلى أسوأ كارثة بشرية، بحسب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس. وذكرت الأمم المتحدة أرقاما مروّعة، منها حاجة ثلاثة أرباع سكان اليمن، أو ما يعادل 22 مليون شخص، الماسّة للمعونات الإنسانية، منهم أكثر من 11 مليون طفل معرّضين للمجاعة، ويعاني 16 مليونا نقصا في المياه. وتسبّبت الغارات الجوية، والتي تم فيها استخدام القنابل العنقودية المحظورة دوليا، إلى تدمير 246 مدرسة بالكامل، وقتل مدنيين عديدين، ما يمكن أن يرقى إلى جرائم حرب. وأدت هذه الكارثة الإنسانية إلى إضعاف الموقف الدبلوماسي السعودي، فدول مثل النرويج وألمانيا أوقفت بيع الأسلحة للأطراف المتصارعة في اليمن، وأدت إلى تحذيرات أميركية بشأن وقف المساعدات لدول التحالف، لكن السعودية غير قادرة، وعلى الرغم من التكلفة العالية، على الانسحاب من اليمن، بسبب الحسابات الجيوسياسية في المنطقة.
يضاف إلى ما سبق أن الحروب غير النظامية تصبح، في معظم الأحيان، ذات أبعاد إقليمية ودولية، فالسعودية اليوم تواجه الحوثيين في إطار تنافس إقليمي مع إيران، منذ عقود، على رقعة الشرق الأوسط. احترفت إيران الحرب بالوكالة، حتى قبل قيام الثورة في 1979،
تنشب الحروب غير النظامية غالبا بسبب عوامل بنيوية في النظام السياسي. ولذلك تكون الحلول معقدة، والنهايات مخيبة لآمال الطرفين، لأنها تبنى على مساومات سياسية. ولذلك، يتخلل معظم الحروب النظامية النزيف الاقتصادي والدمار الاجتماعي والانسداد السياسي، والحرب في اليمن ليست مستثناة، فالسعودية تغوص في المستنقع اليمني، من دون أي مؤشراتٍ على نهايةٍ مرضيةٍ، تضمن سلامة الأمن القومي للأخيرة، لا بل سيتزايد خطر الحوثيين، بسبب الدعم الإيراني، وسيستمرّون في تشكيل عامل عدم استقرار على الحدود السعودية.
فشل السعودية في اليمن سبقه فشلها في إدراك خطورة وجود جماعة الحوثي، ومن خلفها إيران على حدودها. ولذلك جاءت مغامرتها العسكرية متأخرة جدا، ومكلفة على كل الأصعدة، والانخراط في حرب لها بداية وليست لها نهاية. وعلى الرغم من نفاق الحكومات الغربية إزاء المأساة الإنسانية في اليمن، جرّاء الحرب الدائرة، إلا أن الضغط الشعبي في ازدياد مضطرد، ما دفع ويدفع بعض الحكومات إلى نقد الحرب السعودية في اليمن. زد على ذلك الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها السعودية، ما ينذر بكارثة داخلية سعودية بعد الكارثة اليمنية.