24 يوليو 2024
السودان بين ثقافتين
سألني صديق عن سر الاستغراق في الكتابة عن القضايا السياسية في السودان، وهناك الثقافة والأعراق المختلفة، وغنى وتراث يستوجب الوقوف عنده، وهناك الفن بثرائه وتنوعه. حكيت له واقعة في الثمانينات، لمّا كنا طلاباً في الخارج، وزارنا وكيل وزارة التربية والتعليم. ابتدرناه بسؤال المتلهف عن الحال في البلد، فجاء رده بسيطاً مغلفاً برداء فلسفي عميق الدلالة. قال إن صديقين بريطانيين كانا يعيشان خارج بلدهما، حينما قصفت طائرات ألمانيا النازية لندن. تملكتهما العاطفة والحنين للوطن، لكن مخاوفهما من توقيت العودة تمنعهما، فاتفقا أن يذهب أحدهما إلى لندن، ولا يكتب شيئاً، فالعيون النازية في كل مكان، عليه أن يبعث صورة لرجل، إن كان واقفاً فيها فهذا دليل عافية وإشارة لصديقه بالعودة، وإذا كان مائلاً في الصورة، فهذا دليل على أن الوضع غير جيد، والقرار متروك لصاحبه. فلما بلغ الرجل لندن، بعث إلى صاحبه، من هناك، صورة رجل طرح أرضاً.
كفانا الزائر شر السؤال. وفي إحدى زياراتي، أخيراً، للسودان، زارني صديقان، مطرب معروف وملحن مشهور. وعلى الرغم من أن الزيارتين كانتا في يومين مختلفين، إلا أن سؤالي لكل منهما، وقد عنيته تماماً: لماذا لم نسمع لك أغنيات جديدة؟ فتطابقت ردودهما. قالا إن حال البلد لا يجعل متسعاً للتفكير في ترف الغناء. وليس هناك الوقت والمزاج، والبال مشغول بحال البلد وتفاصيل الحياة اليومية، بما فيها من مكابدة عظيمة.
منذ أكثر من ربع قرن، لم نسمع شعراً جميلاً عذب اللحن، ولا الألحان الشجيات عادت لتنثر شلالات الفرح في شعب عرف بتآلفه الجميل، وألفت نفوس الناس جميل الكلام وعذوبة اللحن. أغلب ما يكتبه الشعراء المعروفون يصب في خانة التعبير عن معاناة الناس، ومقاومة بؤس الحال والفساد والمفسدين، وما أكثرهم هذه الأيام.
قلتها قبل سنوات، حينما تفتقت عقلية الحكم بقضية دارفور، وقناعتي أنها صناعة حكومية بامتياز، وكنا على أهبة الدخول لأولى جلسات الوساطة القطرية لحل قضية دارفور في الدوحة. قلت لصديق قطري، وبيننا عبد الكريم الكابلي الذي لديه أغنية تطرب من قلبه حجر، مستوحاة من جبل مُرّة "عشنا اللحظات حلوة ومسرة". قلت مازحاً إن أهل الحكم في الخرطوم قلوبهم غلاظ، فاجمعوهم في غرفة في الفندق، وادعوا الكابلي ينشدهم من بدائع غنائه لجبل مرة، فربما لانت القلوب، ووجدتم مخرجاً سريعاً، فلا قضية في دارفور، بل هو جهل بأصول الحكم، وهي غلظة في قلوب أهل الحكم، لو ذهبت عادت الحياة إلى مجاريها. وقرّ في نفس صديقي أني مازحته، فأوضحت له أنني في منتهى الجدية.
من جبل مرة في دارفور، كان يأتينا صوت خليل إسماعيل شجياً ندياً، تطرب له النفوس "لو شفتو مرة جبل مُرّة"، ثم جاء زمان مختلف، حمل فيه الطبيب خليل إبراهيم، رحم الله الخليلين، السلاح خارجاً على الحكم، فسمعنا صوت السلاح هادراً من جبل مرة، فلم تعد دارفور هي دارفور، ولا السودان عاد إلى سيرته الأولى، بلداً للأمن والسلام.
أسوأ ما جرى في السودان حالة انشطار يفوق، في خطورته وآثاره المدمرة، حالة التمزق وانفصال جنوب السودان. أي الانشطار بوجود ثقافة نحن وهم. وهم هذه لها مسميات دارجة وعديدة في السودان، وتعني الحركة الإسلامية التي استولت على الحكم عام 1989 بانقلاب عسكري، وقد شطرت السودان إلى شطرين رئيسيين، سياسياً وثقافيا واجتماعياً. لهم ولنا، جماعتهم وجماعتنا، صحفيوهم وصحفيونا، شعراؤهم وشعراؤنا، وغيرها من تقسيمات عرقية جهوية قبلية. الأخطر أنه كلما تأخر تغيير نظام الحكم، وبالصورة السلمية التي تتوخاها القوى المعارضة، على اختلاف أطيافها، ضربت أمراض الانشقاق جسم السودان في مقتل. وأخشى أننا بلغنا النقطة الحرجة، فالسودان، اليوم، تطفح فيه ثقافة متعفنة ورثّة، تدفع نحو الكراهية وإذكاء النعرة القبلية والجهوية، وهي أعظم مخاطر تواجه وحدة السودان، وتماسكه، منذ تأسيسه الحديث.
كفانا الزائر شر السؤال. وفي إحدى زياراتي، أخيراً، للسودان، زارني صديقان، مطرب معروف وملحن مشهور. وعلى الرغم من أن الزيارتين كانتا في يومين مختلفين، إلا أن سؤالي لكل منهما، وقد عنيته تماماً: لماذا لم نسمع لك أغنيات جديدة؟ فتطابقت ردودهما. قالا إن حال البلد لا يجعل متسعاً للتفكير في ترف الغناء. وليس هناك الوقت والمزاج، والبال مشغول بحال البلد وتفاصيل الحياة اليومية، بما فيها من مكابدة عظيمة.
منذ أكثر من ربع قرن، لم نسمع شعراً جميلاً عذب اللحن، ولا الألحان الشجيات عادت لتنثر شلالات الفرح في شعب عرف بتآلفه الجميل، وألفت نفوس الناس جميل الكلام وعذوبة اللحن. أغلب ما يكتبه الشعراء المعروفون يصب في خانة التعبير عن معاناة الناس، ومقاومة بؤس الحال والفساد والمفسدين، وما أكثرهم هذه الأيام.
قلتها قبل سنوات، حينما تفتقت عقلية الحكم بقضية دارفور، وقناعتي أنها صناعة حكومية بامتياز، وكنا على أهبة الدخول لأولى جلسات الوساطة القطرية لحل قضية دارفور في الدوحة. قلت لصديق قطري، وبيننا عبد الكريم الكابلي الذي لديه أغنية تطرب من قلبه حجر، مستوحاة من جبل مُرّة "عشنا اللحظات حلوة ومسرة". قلت مازحاً إن أهل الحكم في الخرطوم قلوبهم غلاظ، فاجمعوهم في غرفة في الفندق، وادعوا الكابلي ينشدهم من بدائع غنائه لجبل مرة، فربما لانت القلوب، ووجدتم مخرجاً سريعاً، فلا قضية في دارفور، بل هو جهل بأصول الحكم، وهي غلظة في قلوب أهل الحكم، لو ذهبت عادت الحياة إلى مجاريها. وقرّ في نفس صديقي أني مازحته، فأوضحت له أنني في منتهى الجدية.
من جبل مرة في دارفور، كان يأتينا صوت خليل إسماعيل شجياً ندياً، تطرب له النفوس "لو شفتو مرة جبل مُرّة"، ثم جاء زمان مختلف، حمل فيه الطبيب خليل إبراهيم، رحم الله الخليلين، السلاح خارجاً على الحكم، فسمعنا صوت السلاح هادراً من جبل مرة، فلم تعد دارفور هي دارفور، ولا السودان عاد إلى سيرته الأولى، بلداً للأمن والسلام.
أسوأ ما جرى في السودان حالة انشطار يفوق، في خطورته وآثاره المدمرة، حالة التمزق وانفصال جنوب السودان. أي الانشطار بوجود ثقافة نحن وهم. وهم هذه لها مسميات دارجة وعديدة في السودان، وتعني الحركة الإسلامية التي استولت على الحكم عام 1989 بانقلاب عسكري، وقد شطرت السودان إلى شطرين رئيسيين، سياسياً وثقافيا واجتماعياً. لهم ولنا، جماعتهم وجماعتنا، صحفيوهم وصحفيونا، شعراؤهم وشعراؤنا، وغيرها من تقسيمات عرقية جهوية قبلية. الأخطر أنه كلما تأخر تغيير نظام الحكم، وبالصورة السلمية التي تتوخاها القوى المعارضة، على اختلاف أطيافها، ضربت أمراض الانشقاق جسم السودان في مقتل. وأخشى أننا بلغنا النقطة الحرجة، فالسودان، اليوم، تطفح فيه ثقافة متعفنة ورثّة، تدفع نحو الكراهية وإذكاء النعرة القبلية والجهوية، وهي أعظم مخاطر تواجه وحدة السودان، وتماسكه، منذ تأسيسه الحديث.