السودان.. سياسة "بمن حضر"
صارت كلمة "بمن حضر" الأشهر في حاضر السياسة السودانية، وشكلت منافسة قوية لكلمات ومصطلحات كانت عناوين مراحل سياسية مختلفة. إنها الكلمة المفضلة لقيادات حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان، عندما يتم سؤالها عن ضعف المشاركة، أو غياب القوى السياسية عن محافلهم، سواء كانت عملية الحوار الوطني أو العملية الانتخابية المقرر لها شهر أبريل/نيسان المقبل. الإجابة في الحالتين: ستجري العملية بمن حضر، وحتى صارت النتيجة النهائية أن "المؤتمر الوطني" يحاور نفسه على طاولة الحوار الوطني، وينافس نفسه في الانتخابات المقبلة.
وكان الرئيس، المشير عمر البشير، قد أطلق دعوته للحوار الوطني في يناير/كانون ثاني من العام الماضي، في خطاب عرف باسم "خطاب الوثبة"، نسبة لاستخدامه هذه الكلمة في الخطاب، وقال إن الحوار سيناقش شكل الحكم والحريات العامة، الوضع الاقتصادي وموضوع الهوية. وضم حضور الخطاب الصادق المهدي وحسن الترابي وغازي صلاح الدين، وممثلين عن "الاتحادي الديمقراطي" والأحزاب الحليفة للحكومة، ما يعني موافقتهم على المشاركة في الحوار. وقاطع الخطاب ممثلو أحزاب المعارضة اليسارية والليبرالية، وأعلنوا رفضهم المشاركة فيه، قبل اتخاذ إجراءات لتهيئة الأجواء بتوفير الحريات العامة وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، كما قاطعته الحركات المسلحة.
بدأ الحوار أعرج، إذن، لكنه لم يستمر كذلك، بل تدهورت صحته، حتى وصل إلى مرحلة الكساح. فقد اعتقلت الحكومة أكبر زعيم سياسي معارض ومشارك في الحوار، هو الصادق المهدي، بتهمة إساءته لقوات الدعم السريع (مليشيا قبلية تم تحويلها إلى قوات نظامية)، وأودعته السجن لتقديمه للمحاكمة، ثم أطلقت سراحه بعد ضغوط، فخرج بحزبه من الحوار الوطني، ثم خرج من السودان، ليوقع إعلان باريس مع الحركات المسلحة. ثم اعتقلت الحكومة زعيم حزب المؤتمر السوداني، إبراهيم الشيخ، للسبب نفسه، وأطلقت سراحه، بعد تدخل الوسيط الإفريقي، ثابو أمبيكي. وترفض غالبية قواعد الحزب الاتحادي الديمقراطي وكوادره (يقوده محمد عثمان الميرغني) مشاركته في الحكومة وفي الحوار الوطني، ما جعل مواقف الحزب ملتبسة، ومشاركته في الحكومة ضعيفة.
اتخذت الحكومة، أكثر من مرة، قراراً بإطلاق سراح بعض المعتقلين. لكن، سرعان ما تعود لتعتقل بعضاً آخر، وتشهد الساحة الإعلامية تضييقاً بأشكال متعددة، من فرض الرقابة على بعض الصحف، ومصادرة الأعداد بعد الطباعة، والإيقاف مدداً متفاوتة، وليس انتهاءً بملاحقة الصحافيين بالاستدعاءات الأمنية والبلاغات أمام المحاكم. وهكذا أثبتت الحكومة، من حيث شاءت أو لم تشأ، صحة وجهة الأحزاب والحركات المعارضة بأن الأجواء غير مناسبة للحوار مع الحكومة، وإنه لا بد من اتخاذ حزمة من الإجراءات ومراجعة بعض القوانين قبل الدخول في الحوار.
وبدا في الأفق ضوء بعيد، حين تدخل الوسيط الإفريقي، ثابو إمبيكي، ووصل إلى الخرطوم، ليجري حوارات واسعة مع كل الأطراف السياسية، بما أوحى أن مهمته التي كانت محصورة في العلاقة بين دولتي السودان، والوضع في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، قد امتدت لتشمل كل قضايا السودان. وازداد التفاؤل بعد توقيع آلية الحوار الوطني المسماة (7+7) على إعلان أديس أبابا مع الحركات المسلحة وحزب الأمة، وبدا الحديث عن منبر موحد سيناقش كل قضايا السودان. لكن، لم يعمر الأمل طويلاً، إذ سرعان ما اشتدت الخلافات، وبدا كل طرف يقدم تفسيراً مختلفاً لما وقع عليه، وتلاشت احتمالات المنبر المشترك، وعادت كل قضية إلى منبرها المنفصل.
وأطلق "المؤتمر الوطني" الرصاصة الأخيرة على احتمالات توسيع مائدة الحوار، بانضمام القوى الرافضة، بتمريره تعديلات دستورية في البرلمان، ثم إعلانه إجراء الانتخابات في موعدها في أبريل، من دون انتظار نتائج الحوار الوطني. وهي خطوة رفضها حتى المشاركين في الحوار، ومنهم المؤتمر الشعبي، بقيادة حسن الترابي، وحركة الإصلاح الآن التي يتزعمها غازي صلاح الدين، بجانب منبر السلام العادل الذي يرأسه الطيب مصطفى، وثلاثتها أحزاب إسلامية، خرجت من عباءة "المؤتمر الوطني" في أزمان متفاوتة. وقد أعلنت هذه الأحزاب المشاركة في الحوار، معها أحزاب محاورة صغيرة أخرى، مقاطعتها الانتخابات التي تقاطعها كل أحزاب المعارضة، فقال "المؤتمر الوطني" إنه لن يهتم بذلك، وإن الانتخابات ستجري "بمن حضر". ثم نشبت أزمة أخرى بين الأحزاب المشاركة في الحوار، عندما أرادت أن تجري تعديلاً في أسماء مندوبيها في آلية (7+7)، فتجاهلها المؤتمر الوطني، ورفض التعامل مع التعديلات، فقاطعت معظم الأحزاب لقاءً مع رئيس الجمهورية، وهو لقاء تمهيدي لحسم أجندة الحوار، فرد "المؤتمر الوطني" بأن هذه المقاطعة لن تؤثر في عملية الحوار، لأنه سيجري "بمن حضر".
حصيلة العملية السياسية التي يقودها "المؤتمر الوطني" حتى الآن هي انتخابات ينافس فيها نفسه، وقد تكرم بالتنازل عن 30% من مقاعده في البرلمان القومي والبرلمانات الولائية للأحزاب الحليفة، في حين يترشح الرئيس البشير لرئاسة الجمهورية بلا منافس حقيقي، على الرغم من وجود 12 مرشحاً، معظمهم من الأسماء التي لم يسمع بها الناس من قبل. ويقاطع أكبر حزب مشارك في الحوار الوطني، المؤتمر الشعبي، الانتخابات، كما تقاطعه أحزاب أخرى مشاركة في الحوار، وكل أحزاب المعارضة. ويشارك جزء من الحزب الاتحادي الديمقراطي، في حين تقاطع غالبية القيادات وكوادر الحزب الانتخابات.
أما الحوار الوطني، فيبدو أنه لا يجد حظاً أفضل من الانتخابات، إلا من مشاركة المؤتمر الشعبي، وهو حزب الترابي الذي انشق عن "المؤتمر الوطني" عام 1999. وينتقد الحزب "المؤتمر الوطني" في كل شيء، الانتخابات والتعديلات الدستورية والاعتقالات السياسية والهجمة على حرية الصحافة، لكنه يعلن أن هذا لن يمنعه من المشاركة في الحوار الوطني.
كل شئ سيجري بمن حضر، حتى لو حضر المؤتمر الوطني وحده. لكن، ما هي النتائج التي ستعود على البلاد من ذلك؟ لا أحد يجيب، إما لأنه ليست ثمة إجابة، أو لأن الإجابة معروفة، ولا داعي لمحاولة ملاحقتها.