04 نوفمبر 2024
السودان في انتفاضته الشعبية الثالثة
شكّل السودان نموذجا عربيا إضافيا لأزمة الدولة - الهوية، بقي من دون تحقيق التكامل القومي. ومرة أخرى، يفشل نظام حكم عسكري مستبد في إدارة دولة متعدّدة الإثنيات والثقافات. مع الفساد إلى جانب الاستبداد، تحولت الهويات الفرعية، بدل بقائها في دائرة التنوّع الثقافي والحضاري، هوياتٍ سياسية، تستثمر في لعبة الصراع والمحاصصة على الدولة، ليصبح التمييز من سمات الحكم وقواعده.
لم تستمد الاحتجاجات التي انطلقت في السودان في ديسمبر/ كانون الأول الماضي إلهامها من انتفاضات الدول المجاورة، بل من تاريخ العصيان المدني في البلاد، الذي أطاح نظامين عسكريين سابقين، لصالح حكومتين انتخبتا ديمقراطياً، إلا أن أيا منهما لم تكن كافية لتضع السودان على سكة مسار ديمقراطي، ذي ديمومة، يحقق العدالة والحرية والرخاء والاندماج، ففي 17فبراير/ شباط العام 1958، أنهى انقلاب الفريق إبراهيم عبّود سنتين من حكم مدني تمتع به السودان منذ استقلاله. في غير مرة، انتفض السودانيون ضد حكم العسكر، فكانت ثورة 21 أكتوبر في العام 1964 أول انتفاضة شعبية في العالم العربي ما بعد الاستقلال. استمر الحكم المدني الذي تمخّضت عنه تلك الثورة حتى أواخر مارس/ آذار من العام 1969، ليسيطر العسكر مجدّدا على السلطة. في العام 1985 وضعت الانتفاضة الشعبية ما بين 27 مارس/ آذار - 16إبريل/ نيسان، حدا لستة عشر عاما من حكم جعفر النميري، سجّل معها وزير دفاعه المشير عبد الرحمن سوار الذهب سابقة بانحيازه إلى الجماهير. حُسمت الأمور بعد عام من مرحلةٍ انتقاليةٍ، انتهت بانتخاب حكومة الصادق المهدي في 1986. مرة أخرى لم يستسلم العسكر، وأُطيحت حكومة المهدي على يد العميد، في حينه، عمر البشير، متحالفا مع الجبهة الإسلامية القومية بقيادة حسن الترابي في 1989.
كان إرث البشير الذي تربع على عرش السلطة في السودان 30 عاما الفقر والحرب، فاستولى حتى العام 2010 (على ذمة وثائق ويكيليكس)على تسعة مليارات دولار من أموال النفط
السوداني، استودعها بنوكا بريطانية. وحتى نهاية العام 2018، بلغ عدد من يعانون من السودانيين انعداما في الأمن الغذائي 5,5 ملايين مواطن. وامتدت حملات التطهير العرقي، منذ العام 2003، من دارفور إلى ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان السودانية. وأدت الحرب الأهلية السودانية، والتي استمرت حتى عام 2005، إلى مقتل حوالي مليوني شخص. وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر باعتقال البشير بتهم تتعلق بالإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية.
بينما كان أركان نظام البشير يجمعون الثروات، كانت البلاد تتدهور مؤسساتيا، واقتصاديا، وتعليميا، وثقافيا، وكان الأهم بالنسبة للحكومة ضمان احتكارها وسائل الإنتاج على حساب سبل عيش ملايين الناس، فمع ظهور اقتصاد تصدير النفط في التسعينيات، واستثمارات البشير وزبائنيته في هذا القطاع، أُهملت القطاعات الاقتصادية الأخرى، وتركت لتتلاشى؛ أو تمت خصخصتها؛ أو سلّمت للمستثمرين الأجانب، وأدّى تفكيك مشاريع زراعية (نحو مشروع الجزيرة للري) إلى رحيل المزارعين عن أراضيهم، وانتقال العمال المسرّحين، والرعاة، إلى الخرطوم، بأعداد كبيرة. أما المحظوظين منهم فغادروا البلاد، هجرة إلى الغرب، أو عملا في دول الخليج.
لم تنتج المدينة السودانية قيما اقتصادية مهمة، وكانت أكثر اعتمادا على الأرياف. الجنوب ودارفور كانا صمامي أمان اقتصادي للبلاد، وفي حين يخيم شبح الانفصال على إقليم دارفور بمساحته (خمس مساحة السودان) وثرواته، فإن استقلال الجنوب في العام 2011 شكّل خسارة نفسية واقتصادية مؤلمة للشمال، ودفع السودان الكبير ثمنا اقتصاديا واجتماعيا باهظا للفساد، ولسوء الإدارة السياسية، غارقا في أزمة اجتماعية واقتصادية خطيرة، زاد طينها بِلّة فرض الحكومة تدابير تقشّفية، بما فيها إلغاء الدعم عن السلع الأساسية، بناءً على توصية صندوق النقد الدولي، في محاولةٍ لمعالجة التضخم الاقتصادي المتصاعد (بلغ في العام 2018 نحو 70%). اندلعت منذ 2011، الاحتجاجات متقطعة في السودان، وندّدت، في سبتمبر/ أيلول 2013 بقرار البشير، رفع الدعم عن المنتجات النفطية الذي برّره البشير بأن الدعم يشكل خطرا على الاقتصاد السوداني، فيكلّف الخزينة ما يزيد عن خمسة عشر مليار دولار، متناسيا أن حرب دارفور وحدها كلّفت الحكومة حوالي 24 مليار دولار، أي 162% من الناتج المحلي الاجمالي خلال عشر سنوات، وراح ضحيتها، حسب تقديرات الأمم المتحدة، نحو 300 ألف قتيل، تقدّرهم الخرطوم بعشرة آلاف فقط. في الأمس كما اليوم قُمعت المظاهرات بوحشية.
الحراك الثوري للسودانيين الذي أطاح حتى اليوم رأس النظام، لم ينطلق أولا من الجامعات، بل
من المعقل التقليدي للحركة العمالية السودانية، مدينة عطبرة للسكك الحديدية، وانتشر في جميع البلاد، بمشاركة فقراء الأرياف والطبقات الوسطى في المدينة، ليعكس تطلعات شرائح واسعة من الشعب السوداني، تغذّى من التخطيط التنظيمي، والعاطفة التلقائية، في آن، وأحدث تباينا بين مواقف الجيش وموقف قوات الأمن من المتظاهرين، وانقساما في صفوف الأول. فعلى عكس كبار الضباط، كان الجنود وصغار الضباط أقرب إلى الحراك الشعبي. اضطرت قيادة الجيش لإطاحة رأس النظام (الرئيس البشير) حماية لجوهره، وضماناً لامتيازاتهم، ومزاياهم، ومصالحهم التجارية، ونزعاً لفتيل الحركة الجماهيرية، عبر تدارك تغييرٍ من الأسفل بتغيير من الأعلى.
ومن تاريخهم، يتعلم السودانيون كيف يصحّحون أخطاءهم، فيرفضون الوثوق بالعسكر، ومحاولتهم الالتفاف على مطالب الجماهير، والاكتفاء بتغيير واجهات النظام، فقد لا يتكرر سوار الذهب. تمسّكت المعارضة بمطلب تسليم السلطة، فورا ومن دون شروط، لحكومة انتقالية مدنية، وفقا لما أقرّه "إعلان الحرية والتغيير"، تدير المرحلة الانتقالية أربع سنوات، وتنفذ المهام الانتقالية التي فصّلها الإعلان. حالت قيادة تجمع المهنيين السودانيين للحراك الثوري الذي انطلق في ديسمبر/ كانون الأول الماضي دون بقائه عفويا، وبلا رأس، وكانت حازمةً في مواجهة القمع. تبنّى "إعلان الحرية والتغيير" الذي عكس مطالب الحراك كل من تجمّع المهنيين، وتحالف قوى الإجماع الوطني، وانضمت إليه لاحقا مختلف القوى والتيارات المعارضة، ليكتسب الحراك زخما أكبر في مارس/آذار 2019، بعد أن أعلن تجمع تصحيح واستعادة النقابات العمالية انضمامه إلى الاحتجاجات لإطاحة البشير، داعيا في بيانه جميع النقابات التي حلّها النظام، لإعادة تعبئة صفوفها، والانضمام إلى الاحتجاجات.
مع الانتفاضة السودانية الثالثة، ينفض جيل من السودانيين عن أكتافه ثلاثة عقود من الاستبداد، مطالبا بوسائل العيش، وأيضا، بالكرامة والعزّة الوطنية، وكل ما لم يقدّمه نظام البشير. أما ارتفاع مشاركة المرأة في الفعاليات الاحتجاجية (تحدّثت تقارير عن بلوغها نسبة 70% ) فهي ليست مستغربة، ليس فقط بالنظر إلى تاريخ نضال المرأة السودانية، بل أيضا، لأنه إذا كان الاعتقال والجلد مصيرا محتملا لمشاركة المرأة في الاحتجاجات للخلاص من ديكتاتورية سياسية واجتماعية (كما كان مصير خالدة زاهر في 1946)، فليس لدى نساء السودان ما يخسرنه، سوى واقعهن اليومي الذي تُعتقل فيه عشرات النساء، ويجلدن، لمجرد ارتداء الواحدة منهن لباسا غير محتشم (السروال). تعكس هذه المشاركة النسوية حراكا ثوريا حقيقيا، يصبح معه صوت المرأة، في حد ذاته، ثورة بعد أن كان "عورة".
لم تستمد الاحتجاجات التي انطلقت في السودان في ديسمبر/ كانون الأول الماضي إلهامها من انتفاضات الدول المجاورة، بل من تاريخ العصيان المدني في البلاد، الذي أطاح نظامين عسكريين سابقين، لصالح حكومتين انتخبتا ديمقراطياً، إلا أن أيا منهما لم تكن كافية لتضع السودان على سكة مسار ديمقراطي، ذي ديمومة، يحقق العدالة والحرية والرخاء والاندماج، ففي 17فبراير/ شباط العام 1958، أنهى انقلاب الفريق إبراهيم عبّود سنتين من حكم مدني تمتع به السودان منذ استقلاله. في غير مرة، انتفض السودانيون ضد حكم العسكر، فكانت ثورة 21 أكتوبر في العام 1964 أول انتفاضة شعبية في العالم العربي ما بعد الاستقلال. استمر الحكم المدني الذي تمخّضت عنه تلك الثورة حتى أواخر مارس/ آذار من العام 1969، ليسيطر العسكر مجدّدا على السلطة. في العام 1985 وضعت الانتفاضة الشعبية ما بين 27 مارس/ آذار - 16إبريل/ نيسان، حدا لستة عشر عاما من حكم جعفر النميري، سجّل معها وزير دفاعه المشير عبد الرحمن سوار الذهب سابقة بانحيازه إلى الجماهير. حُسمت الأمور بعد عام من مرحلةٍ انتقاليةٍ، انتهت بانتخاب حكومة الصادق المهدي في 1986. مرة أخرى لم يستسلم العسكر، وأُطيحت حكومة المهدي على يد العميد، في حينه، عمر البشير، متحالفا مع الجبهة الإسلامية القومية بقيادة حسن الترابي في 1989.
كان إرث البشير الذي تربع على عرش السلطة في السودان 30 عاما الفقر والحرب، فاستولى حتى العام 2010 (على ذمة وثائق ويكيليكس)على تسعة مليارات دولار من أموال النفط
بينما كان أركان نظام البشير يجمعون الثروات، كانت البلاد تتدهور مؤسساتيا، واقتصاديا، وتعليميا، وثقافيا، وكان الأهم بالنسبة للحكومة ضمان احتكارها وسائل الإنتاج على حساب سبل عيش ملايين الناس، فمع ظهور اقتصاد تصدير النفط في التسعينيات، واستثمارات البشير وزبائنيته في هذا القطاع، أُهملت القطاعات الاقتصادية الأخرى، وتركت لتتلاشى؛ أو تمت خصخصتها؛ أو سلّمت للمستثمرين الأجانب، وأدّى تفكيك مشاريع زراعية (نحو مشروع الجزيرة للري) إلى رحيل المزارعين عن أراضيهم، وانتقال العمال المسرّحين، والرعاة، إلى الخرطوم، بأعداد كبيرة. أما المحظوظين منهم فغادروا البلاد، هجرة إلى الغرب، أو عملا في دول الخليج.
لم تنتج المدينة السودانية قيما اقتصادية مهمة، وكانت أكثر اعتمادا على الأرياف. الجنوب ودارفور كانا صمامي أمان اقتصادي للبلاد، وفي حين يخيم شبح الانفصال على إقليم دارفور بمساحته (خمس مساحة السودان) وثرواته، فإن استقلال الجنوب في العام 2011 شكّل خسارة نفسية واقتصادية مؤلمة للشمال، ودفع السودان الكبير ثمنا اقتصاديا واجتماعيا باهظا للفساد، ولسوء الإدارة السياسية، غارقا في أزمة اجتماعية واقتصادية خطيرة، زاد طينها بِلّة فرض الحكومة تدابير تقشّفية، بما فيها إلغاء الدعم عن السلع الأساسية، بناءً على توصية صندوق النقد الدولي، في محاولةٍ لمعالجة التضخم الاقتصادي المتصاعد (بلغ في العام 2018 نحو 70%). اندلعت منذ 2011، الاحتجاجات متقطعة في السودان، وندّدت، في سبتمبر/ أيلول 2013 بقرار البشير، رفع الدعم عن المنتجات النفطية الذي برّره البشير بأن الدعم يشكل خطرا على الاقتصاد السوداني، فيكلّف الخزينة ما يزيد عن خمسة عشر مليار دولار، متناسيا أن حرب دارفور وحدها كلّفت الحكومة حوالي 24 مليار دولار، أي 162% من الناتج المحلي الاجمالي خلال عشر سنوات، وراح ضحيتها، حسب تقديرات الأمم المتحدة، نحو 300 ألف قتيل، تقدّرهم الخرطوم بعشرة آلاف فقط. في الأمس كما اليوم قُمعت المظاهرات بوحشية.
الحراك الثوري للسودانيين الذي أطاح حتى اليوم رأس النظام، لم ينطلق أولا من الجامعات، بل
ومن تاريخهم، يتعلم السودانيون كيف يصحّحون أخطاءهم، فيرفضون الوثوق بالعسكر، ومحاولتهم الالتفاف على مطالب الجماهير، والاكتفاء بتغيير واجهات النظام، فقد لا يتكرر سوار الذهب. تمسّكت المعارضة بمطلب تسليم السلطة، فورا ومن دون شروط، لحكومة انتقالية مدنية، وفقا لما أقرّه "إعلان الحرية والتغيير"، تدير المرحلة الانتقالية أربع سنوات، وتنفذ المهام الانتقالية التي فصّلها الإعلان. حالت قيادة تجمع المهنيين السودانيين للحراك الثوري الذي انطلق في ديسمبر/ كانون الأول الماضي دون بقائه عفويا، وبلا رأس، وكانت حازمةً في مواجهة القمع. تبنّى "إعلان الحرية والتغيير" الذي عكس مطالب الحراك كل من تجمّع المهنيين، وتحالف قوى الإجماع الوطني، وانضمت إليه لاحقا مختلف القوى والتيارات المعارضة، ليكتسب الحراك زخما أكبر في مارس/آذار 2019، بعد أن أعلن تجمع تصحيح واستعادة النقابات العمالية انضمامه إلى الاحتجاجات لإطاحة البشير، داعيا في بيانه جميع النقابات التي حلّها النظام، لإعادة تعبئة صفوفها، والانضمام إلى الاحتجاجات.
مع الانتفاضة السودانية الثالثة، ينفض جيل من السودانيين عن أكتافه ثلاثة عقود من الاستبداد، مطالبا بوسائل العيش، وأيضا، بالكرامة والعزّة الوطنية، وكل ما لم يقدّمه نظام البشير. أما ارتفاع مشاركة المرأة في الفعاليات الاحتجاجية (تحدّثت تقارير عن بلوغها نسبة 70% ) فهي ليست مستغربة، ليس فقط بالنظر إلى تاريخ نضال المرأة السودانية، بل أيضا، لأنه إذا كان الاعتقال والجلد مصيرا محتملا لمشاركة المرأة في الاحتجاجات للخلاص من ديكتاتورية سياسية واجتماعية (كما كان مصير خالدة زاهر في 1946)، فليس لدى نساء السودان ما يخسرنه، سوى واقعهن اليومي الذي تُعتقل فيه عشرات النساء، ويجلدن، لمجرد ارتداء الواحدة منهن لباسا غير محتشم (السروال). تعكس هذه المشاركة النسوية حراكا ثوريا حقيقيا، يصبح معه صوت المرأة، في حد ذاته، ثورة بعد أن كان "عورة".