واتضحت المماطلة ومحاولة كسب الوقت من قبل المجلس جلية من خلال موقفه من الوساطة الإثيوبية التي قادها شخصياً رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، الذي حضر بنفسه لأجلها إلى الخرطوم في السابع من يونيو/ حزيران الحالي، ووجد استقبالاً كبيراً، فيما حازت مبادرته على ترحيب واسع، جاء على ألسنة أعضاء المجلس العسكري ورئيسه الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قبل أن يعلنوا عن رفضهم لمقترحاتها أخيراً.
وحين غادر أبي أحمد الخرطوم، ترك خلفه ممثلاً شخصياً، هو الدبلوماسي محمود درير، الذي انخرط في سلسلة من الاجتماعات مع المجلس العسكري و"قوى إعلان الحرية والتغيير" التي تضغط في اتجاه تشكيل سلطة مدنية في شقيها السيادي والتنفيذي وكذلك التشريعي. وفي غضون أسبوعين من النشاط المحموم، نجحت وساطة أديس أبابا في الحصول على دعم كبير من الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي، ومن الاتحاد الأفريقي ومنظمة "التنمية الحكومية" (إيغاد) التابعة له والتي تمتلك خبرة في حلحلة النزاعات. وتركت كل تلك الجهات المجال للمبعوث الإثيوبي للتحرك، والذي قدّم ورقة مقترحات لتقريب شقة الخلاف بين المجلس العسكري و"قوى الحرية والتغيير".
وكان التفاوض المباشر قد توقّف بين الطرفين في أعقاب فضّ اعتصام محيط قيادة الجيش السوداني بالخرطوم في الثالث من يونيو الحالي، في العملية التي نفذها المجلس العسكري بصورة غادرة، كما تقول قوى إعلان الحرية والتغيير.
وأقرّت ورقة الوساطة الإثيوبية بالشراكة بين المجلس العسكري وقوى "إعلان الحرية والتغيير"، وأيّدت بدء التفاوض بينهما، من حيث انتهت آخر جلسة تفاوض، ما يعني اعتماد الاتفاقات الخاصة بأحقية "الحرية والتغيير" في تشكيل الحكومة والحصول على ثلثي البرلمان الانتقالي. ثمّ قفزت مقترحات أديس أبابا إلى تقديم تصوّر جديد لنقطة الخلاف الأساسية المتعلقة بتشكيل مجلس السيادة، بطرح يقضي بمناصفة عضوية المجلس بواقع 7 أعضاء من العسكريين و7 من المدنيين، مع اتفاق الطرفين على عضو آخر من المدنيين، ما يعطي الصفة المدنية للمجلس من خلال الأغلبية.
وجاءت كل المقترحات لصالح قوى "إعلان الحرية والتغيير" أو بالأحرى لصالح قيام السلطة المدنية في البلاد، وهو أمر عدا عن أنه خيار شعبي، إلا أنّه وجد دعماً إقليمياً ودولياً، لا سيما من المحيط الأفريقي الذي منح من خلال منظومة الاتحاد الأفريقي مهلة للعسكريين لتسليم السلطة لحكومة مدنية في فترة أقصاها الثلاثين من يونيو الحالي، وإلا سوف تتوالى العقوبات على السودان، وقد لا تجدي محاولات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي يترأس الدورة الحالية للاتحاد، في مدّ المهلة مجدداً أو القبول بصيغة لا تلبي طموحات السودانيين.
كما يعدّ اعتراف وساطة أبي أحمد بحصر الشراكة في إدارة الفترة الانتقالية بين المجلس العسكري و"قوى إعلان الحرية والتغيير"، ضربة موجعة للمجلس الذي أعلن عزمه من قبل على فتح طاولة التفاوض لكل القوى السياسية، بما فيها تلك التي كانت شريكة للبشير في سنواته الأخيرة، لا بل وأيامه الأخيرة. وكانت تلك القوى قد تماهت في الأيام الماضية مع توجهات المجلس العسكري، فضلاً عن أنها قوى معروفة أصلاً بخفة وزنها ومرونة مواقفها التفاوضية التي تدفعها للقبول بمناصب دستورية شكلية مقابل تنازلات كبيرة.
كذلك، فإنّ مقترح الوساطة الإثيوبية بأن يبدأ التفاوض من نقطة النهاية قبل تعليقه من جانب الطرفين في الثالث من الشهر الحالي، مثّل في حدّ ذاته ضربة ثانية للمجلس الذي ألغى في قرار أحادي من قبل كامل الاتفاقات السابقة مع "الحرية والتغيير" الخاصة بتشكيل مجلس الوزراء والبرلمان.
ومع كل تلك المواقف والمستجدات، وجد المجلس العسكري نفسه في موقف صعب، لا سيما بعدما سارعت "قوى إعلان الحرية والتغيير" إلى القبول بما جاءت به الوساطة الإثيوبية، لذا حاول المجلس الهروب إلى الأمام برفضه للمقترحات الإثيوبية وادعائه وجود أخطاء إجرائية في ما يتعلق بالمبادرات الحالية، ومطالبته بمبادرة مشتركة بين الاتحاد الأفريقي وإثيوبيا.
وقد أعلن نائب رئيس المجلس العسكري، قائد قوات الدعم السريع، الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، مباشرة، في آخر تصريحات له خلال خطاب شعبي، أوّل من أمس الإثنين، رفض المجلس لمقترحات الوساطة الإثيوبية، مشيراً إلى أنّ الأخير "يرفض الإملاءات"، وأنّ أبي أحمد، حينما اجتمع بأعضاء المجلس، لم يوضح أن لديه مقترحات، إنما تحدث عن "مساع لإعادة التفاوض"، لافتاً إلى أن أعضاء المجلس "لن يرضوا إلا بمناصفة في المجلس السيادي ومناصفة أخرى في المجلس التشريعي".
ومن الواضح تماماً أنّ المجلس العسكري قرّر من دون أن يعلن عن ذلك صراحة، الانفراد بالحكم، وإلغاء فكرة التفاوض مع "قوى الحرية والتغيير"، صانعة الثورة، والذهاب بعيداً لتشكيل حكومته، والتي تتحدث بعض المجالس السياسية في السودان عن جاهزية أسمائها، وهو أمر قد يتضح بنهاية الأسبوع الحالي.
وهذا التوجه يتزعمه تحديداً حميدتي، الذي بات المتحكّم الأوّل في صنع القرار داخل المجلس العسكري، والمحرّك الذي يجتهد في تقديم نفسه على أنه المخلّص للشعب السوداني، مع سعيه لتحريك القبائل ورجالات الطرق الصوفية لخطب ودها. كما أنه يتبنى خطاباً معادياً تجاه "قوى إعلان الحرية والتغيير"، وقد تصاعدت حدة لهجته خلال الأيام الماضية نتيجة تحميل كثير من الجهات قوات الدعم السريع التي يقودها، مسؤولية فضّ اعتصام القيادة العامة، وما خلفه ذلك من خسائر بشرية فادحة. وما أزعجه أكثر اتهام دولتي الإمارات والسعودية بدعمه، وبالتالي تحميلهما جزءاً من المسؤولية، لذا صار يحرص خلال لقاءاته الجماهيرية اليومية على الدفاع عن الرياض وأبوظبي.
وأعلن حميدتي، الإثنين، عن قرار المجلس العسكري بإطلاق سراح جميع أسرى الحركات المسلحة، في موقف اعتبره "بادرة حسن نوايا لتحقيق السلام في السودان". وتعهد بالتواصل مع كل الحركات المسلحة في البلاد للتوافق معها من أجل تحقيق السلام، مشيراً إلى اتصالات مبدئية مع كل من "حركة تحرير السودان" بزعامة ميني أركو مناوي، والحركة الشعبية قطاع الشمال فصيل عبد العزيز الحلو.
يحدث ذلك كله في وقت يغيب فيه فعلياً عن المشهد السياسي رئيس المجلس العسكري عبد الفتاح البرهان، الذي يبدو أنه اختار ترك المسرح لحميدتي وأجندته.
على ضفة "الحرية والتغيير"، فقد كسبت نقطة إضافية على المجلس العسكري بعد موافقتها غير المشروطة على المقترحات الإثيوبية بوجه الموقف غير المقنع للمجلس تجاه وساطة أديس أبابا.
وقد أكّد "تجمّع المهنيين السودانيين"، أول من أمس الإثنين، تمسكه بالقبول بمقترحات الوساطة الإثيوبية لحلّ الأزمة السياسية في البلاد، مندداً في الوقت نفسه برفض المجلس العسكري للمقترحات وبلغة غير دبلوماسية تعامل بها الأخير مع أديس أبابا.
وقال القيادي بالتجمع إسماعيل تاج، في مؤتمر صحافي، الإثنين، إنّ "رفض المجلس العسكري للوساطة الإثيوبية يدفع للمضي إلى الأمام في التصعيد الثوري والإعداد لموكب مليوني حدد يوم 30 يونيو/ حزيران الحالي"، مبيناً أنّ "الثورة ستستمر بصورتها السلمية التي بدأت بها وانتصرت بها وسيسمع المجلس صوت الشعب السوداني في الشوارع"، محذراً المجلس العسكري من مغبة الاستمرار في التعدي على وسائل التعبير السلمي وإطلاق الرصاص على المتظاهرين.
ويزيد التعاطف الشعبي مع "الحرية والتغيير" من فرضية نجاح حملاتها التصعيدية التي باتت تعرف بـ"الموجة الثالثة"، باعتبار أنّ الموجة الأولى أسقطت البشير والموجة الثانية أسقطت وزير الدفاع السابق عوض بن عوف، بينما تسعى الموجة الثالثة لإسقاط المجلس العسكري.
وقد بدأت "الحرية والتغيير" بتدشين نشاط تلك الموجة بالتدريج منذ فضّ الاعتصام، ويتوقّع أن تجد دعوتها النوعية لمليونية جديدة في 30 يونيو هي الأولى منذ سقوط البشير، نجاحاً كبيراً، عطفاً على تجربة الحراك الثوري قبل سقوط الرئيس المعزول. تلك التجربة التي يسعى المجلس العسكري، وخصوصاً حميدتي، لمواجهتها، سواء من خلال قمع الحراك الثوري، كما حدث في الأيام الماضية من تفريق التظاهرات الليلية ومنع اجتماعات للمعارضة وإغلاق الميادين الثورية وإقصاء القوى الحية والفاعلة، أو من خلال التصريحات المستفزة التي يبرع فيها حميدتي هذه الأيام.