10 ابريل 2019
السودان وساقية الحكومات
جاء في الأثر القصصي أنّ جحا حينما صنع ساقيةً على النهر، كانت تأخذ الماء منه وتردّه إلى النهر نفسه، فتعجّب الناس وقالوا: عجباً لك يا جحا.. أتصنع ساقية تأخذ الماء من النهر لتردّه إليه، فقال جحا: يكفيني نعيرها. ومع أنّ الساقية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالثقافة الاقتصادية والتنمية في وادي النيل، إلّا أنّ ساقية الحكومة السودانية تبتعد عن هذا المعنى الذي يفيد الأرض والزرع، وتقارب إلى حدٍّ ما ساقية جحا.
هناك مفارقة تنخر في عظم السياسة السودانية، وهي عدم جدوى الحكومات التي يتم تشكيلها مستندةً على النظام العسكري، فيتمّ حلّها وإعادة تشكيلها، مع الإبقاء على المنصب الرئاسي في مكانه مع أنّ الرئاسة هي المسؤولة عن ضعف الحكومة وعدم مقدرتها على القيام بمهامها، فالرئاسة في السودان تعمل بطاقة محدودة، وتمنع البقية من العمل.
عندما تم حل الحكومة الانتقالية عام 2010، كان وزير رئاسة الجمهورية، الفريق بكري حسن صالح، ممن أبقاهم الرئيس عمر البشير من وزراء رئاستي الجمهورية ومجلس الوزراء والدفاع في مهامهم. وعندما تم حلّ الحكومة الماضية عام 2017 أدى الفريق بكري اليمين الدستورية، ليصبح رئيساً للوزراء في حكومة الوفاق الوطني التي تم تشكيلها في مارس/ آذار من العام نفسه. ولكنه بدلاً من أن يكون منافساً مفيداً لرئيس الجمهورية، أصبح عبئاً يُضاف إلى عبء الرئاسة، فدوره الضعيف لم يمكّنه من حلّ المشكلة الاقتصادية، أو إعطاء الشعب تنويراً ومبرّرات معقولة لأسباب تهاوي الجنيه السوداني أمام الدولار، وأزمة الخبز والغلاء في السلع الأساسية. وعلى الرغم من أنّه يتمتّع بسلطة ضئيلة، فإنّه كان في وسعه الاستفادة من السلطة الظاهرية، ليكون مفيداً، وذلك عبر القيام بمهام تُعدّ نوعاً من صمامات الأمان تجاه السخط الشعبي.
قد يكون السبب في عقد النية على تشكيل حكومة جديدة هو الضعف البائن في حكومة بكري، فقد كان الرئيس البشير يحلّ الحكومات السابقة إذا ساوره القلق من بروز أي هيمنةٍ محتملة من رجال السلطة من حوله، فيقصّ أجنحتهم، ويقوم بإخفات صوتهم، ثم إبعادهم عن مراكز صنع القرار، وأغلب من هم في الظل الآن كانوا في الظاهر حاكمين بأمرهم، وفي الخفاء، يرعون طموحاتهم الشخصية. في الأيام الأولى لتنصيب بكري، مثّل هاجساً متوهّماً إلى درجة دخول بعضهم في رهان إبعاده عن دوائر السلطة، بيد أنّ الأمور لم تسر بسلاسة، فها هو رئيس الوزراء المعين يجد نفسه، بعد أقلّ من عام من تعيينه، غير قادر على اتخاذ أي قرار. وعلى الرغم من ظهوره أخيرا، إلى جانب الرئيس في اجتماع مجلس شورى حزب المؤتمر الوطني الحاكم، إلّا أنّ ما يتردّد في وسائل التواصل الاجتماعي عن احتمال ذهابه كبير. وعلى كلٍّ، لن يكون هذا بعيداً، لكن الرجل سيأوي إلى الظلّ نفسه الذي احتوى علي عثمان محمد طه ونافع علي نافع، وغيرهما من الصقور الشرسة في حزب المؤتمر الوطني الحاكم، مع الفرق البائن بين أسباب انزوائهم في تلك المكانة بعد خدمة الرئيس وحالة بكري.
بوصفه محميّا من النقد والاعتراض على قراراته من البرلمان، ومع افتقار الحراك السياسي لتشكيل تهديد مباشر لمنصبه، فإن الرئيس البشير لا يواجه المشكلات بجديّة. وهو عندما يأتي بوزراء جدد وسرعان ما يُكتشف فسادهم، فإنّهم يعتمدون على السلطة المنبثقة من منصب الرئيس، فالعقلية المتفشية في الحكومة تشجّع على انتهاج أساليب الفساد والنجاة من العقاب، لأنّ الحملة اللطيفة على الفساد التي تُسمى في السودان بالتحلّل منه من دون العقاب تتغذّى على نزعات منغرسة في الثقافة السياسية السودانية، من أجل طمس الحدّ الفاصل بين مصالح الدولة والمصالح الخاصة. وعلى الرغم من ميل البشير إلى إعطاء أولويات في المناصب والترقيات للأقارب والأصدقاء والموالين والحزبيين المأجورين، إلّا أنّ الفريق بكري نجا، إلى هذه اللحظة، من السلسلة الجهنمية بكسبه المهنيّ.
تركيز السلطة في أيدي الرئيس البشير أخمد روح المبادرة والكفاءة على امتداد الحكم الذي اقترب من ثلاثة عقود. وهذا هو التفسير للمفارقة المتعلّقة بوجود مسؤول كبير، مثل الفريق بكري، لكنه ليس قادراً. ومن الصعوبة بمكان، لكنها الحقيقة أن ينضم بكري إلى كونه "تمومة
جرتق" في الحكومة القائمة. والجرتق طقس تقليدي رئيس من طقوس الزواج في السودان، ويُعتبر وثيقة زواج أخرى بعد عقد القران. تسرّب هذا المثل إلى القاموس السياسي السوداني للتعبير عن دور الكومبارس الذي يلعبه السياسيون الصوريون، أكانوا من الحزب الحاكم أو من أحزاب المعارضة.
نجح الرئيس عمر البشير في جعل الشعب السوداني ينظر من خرم إبرة حلّ الحكومة وتشكيلها، فسَرت قناعة بأنّه ليس في وسع حكومة جديدة في هذه المرحلة أن تطفئ نار الأزمات التي يعاني منها الشعب السوداني، باعتبار أنّ تلك الخطوة ستحدث فراغاً سياسياً من جهة، وقد لا تكون أية شخصية سياسية مستعدة لترث حكومةً غارقةً في الأزمات والديون من جهة أخرى. ومع ذلك، ليس هناك من سيناريوهات لتجاوز المأزق، فعقب كل حكومة خارجة، هناك أخرى تنتظرها عند الباب، لتدسّ في يدها مفتاح القصر. نسي الناس أنّ ساقية الحكومات، وهي تدور، تعتّم الأفق من النظر في إمكانية تجدّد مياه النهر الكدِرة بنظام ديمقراطي، والقول جملةً واحدة إنّ النظام الانقلابي هو سبب الأزمات الاقتصادية والسياسية التي يعاني منها السودان منذ ثلاثين عاماً.
هناك مفارقة تنخر في عظم السياسة السودانية، وهي عدم جدوى الحكومات التي يتم تشكيلها مستندةً على النظام العسكري، فيتمّ حلّها وإعادة تشكيلها، مع الإبقاء على المنصب الرئاسي في مكانه مع أنّ الرئاسة هي المسؤولة عن ضعف الحكومة وعدم مقدرتها على القيام بمهامها، فالرئاسة في السودان تعمل بطاقة محدودة، وتمنع البقية من العمل.
عندما تم حل الحكومة الانتقالية عام 2010، كان وزير رئاسة الجمهورية، الفريق بكري حسن صالح، ممن أبقاهم الرئيس عمر البشير من وزراء رئاستي الجمهورية ومجلس الوزراء والدفاع في مهامهم. وعندما تم حلّ الحكومة الماضية عام 2017 أدى الفريق بكري اليمين الدستورية، ليصبح رئيساً للوزراء في حكومة الوفاق الوطني التي تم تشكيلها في مارس/ آذار من العام نفسه. ولكنه بدلاً من أن يكون منافساً مفيداً لرئيس الجمهورية، أصبح عبئاً يُضاف إلى عبء الرئاسة، فدوره الضعيف لم يمكّنه من حلّ المشكلة الاقتصادية، أو إعطاء الشعب تنويراً ومبرّرات معقولة لأسباب تهاوي الجنيه السوداني أمام الدولار، وأزمة الخبز والغلاء في السلع الأساسية. وعلى الرغم من أنّه يتمتّع بسلطة ضئيلة، فإنّه كان في وسعه الاستفادة من السلطة الظاهرية، ليكون مفيداً، وذلك عبر القيام بمهام تُعدّ نوعاً من صمامات الأمان تجاه السخط الشعبي.
قد يكون السبب في عقد النية على تشكيل حكومة جديدة هو الضعف البائن في حكومة بكري، فقد كان الرئيس البشير يحلّ الحكومات السابقة إذا ساوره القلق من بروز أي هيمنةٍ محتملة من رجال السلطة من حوله، فيقصّ أجنحتهم، ويقوم بإخفات صوتهم، ثم إبعادهم عن مراكز صنع القرار، وأغلب من هم في الظل الآن كانوا في الظاهر حاكمين بأمرهم، وفي الخفاء، يرعون طموحاتهم الشخصية. في الأيام الأولى لتنصيب بكري، مثّل هاجساً متوهّماً إلى درجة دخول بعضهم في رهان إبعاده عن دوائر السلطة، بيد أنّ الأمور لم تسر بسلاسة، فها هو رئيس الوزراء المعين يجد نفسه، بعد أقلّ من عام من تعيينه، غير قادر على اتخاذ أي قرار. وعلى الرغم من ظهوره أخيرا، إلى جانب الرئيس في اجتماع مجلس شورى حزب المؤتمر الوطني الحاكم، إلّا أنّ ما يتردّد في وسائل التواصل الاجتماعي عن احتمال ذهابه كبير. وعلى كلٍّ، لن يكون هذا بعيداً، لكن الرجل سيأوي إلى الظلّ نفسه الذي احتوى علي عثمان محمد طه ونافع علي نافع، وغيرهما من الصقور الشرسة في حزب المؤتمر الوطني الحاكم، مع الفرق البائن بين أسباب انزوائهم في تلك المكانة بعد خدمة الرئيس وحالة بكري.
بوصفه محميّا من النقد والاعتراض على قراراته من البرلمان، ومع افتقار الحراك السياسي لتشكيل تهديد مباشر لمنصبه، فإن الرئيس البشير لا يواجه المشكلات بجديّة. وهو عندما يأتي بوزراء جدد وسرعان ما يُكتشف فسادهم، فإنّهم يعتمدون على السلطة المنبثقة من منصب الرئيس، فالعقلية المتفشية في الحكومة تشجّع على انتهاج أساليب الفساد والنجاة من العقاب، لأنّ الحملة اللطيفة على الفساد التي تُسمى في السودان بالتحلّل منه من دون العقاب تتغذّى على نزعات منغرسة في الثقافة السياسية السودانية، من أجل طمس الحدّ الفاصل بين مصالح الدولة والمصالح الخاصة. وعلى الرغم من ميل البشير إلى إعطاء أولويات في المناصب والترقيات للأقارب والأصدقاء والموالين والحزبيين المأجورين، إلّا أنّ الفريق بكري نجا، إلى هذه اللحظة، من السلسلة الجهنمية بكسبه المهنيّ.
تركيز السلطة في أيدي الرئيس البشير أخمد روح المبادرة والكفاءة على امتداد الحكم الذي اقترب من ثلاثة عقود. وهذا هو التفسير للمفارقة المتعلّقة بوجود مسؤول كبير، مثل الفريق بكري، لكنه ليس قادراً. ومن الصعوبة بمكان، لكنها الحقيقة أن ينضم بكري إلى كونه "تمومة
نجح الرئيس عمر البشير في جعل الشعب السوداني ينظر من خرم إبرة حلّ الحكومة وتشكيلها، فسَرت قناعة بأنّه ليس في وسع حكومة جديدة في هذه المرحلة أن تطفئ نار الأزمات التي يعاني منها الشعب السوداني، باعتبار أنّ تلك الخطوة ستحدث فراغاً سياسياً من جهة، وقد لا تكون أية شخصية سياسية مستعدة لترث حكومةً غارقةً في الأزمات والديون من جهة أخرى. ومع ذلك، ليس هناك من سيناريوهات لتجاوز المأزق، فعقب كل حكومة خارجة، هناك أخرى تنتظرها عند الباب، لتدسّ في يدها مفتاح القصر. نسي الناس أنّ ساقية الحكومات، وهي تدور، تعتّم الأفق من النظر في إمكانية تجدّد مياه النهر الكدِرة بنظام ديمقراطي، والقول جملةً واحدة إنّ النظام الانقلابي هو سبب الأزمات الاقتصادية والسياسية التي يعاني منها السودان منذ ثلاثين عاماً.