الغريب في قضية تهاوي سعر العملة السورية اليوم، إلى ما دون 500 ليرة للدولار الواحد، وخسارتها 10% من قيمتها خلال الشهر الجاري، هو أن لا سبب حقيقياً واضحاً، بل ربما على العكس.
فالمجريات الاقتصادية والسياسية في سورية، من المفترض أن تحسّن من سعر الليرة، بعد ما قيل عن عودة الإنتاج لبعض الشركات الصناعية وبدء توافد بعض السياح وفتح "معبر نصيب" مع المملكة الأردنية، بل وبدء تطبيع بعض الدول، العربية والأجنبية، مع نظام بشار الأسد، استعداداً لتحصيل حصة من "رشى" إعادة الإعمار، بواقع استمرار إعادة إنتاج نظام الأسد ومحاولات القفز الدولي، على جرائمه وحقوق السوريين.
وربما ما قرأناه وسمعناه من بعض المحللين والمسؤولين المقربين من نظام الأسد، يثير السخرية والاستغراب في آن، فأن يرى هؤلاء أن زيادة مدخرات السوريين بالليرة السورية وسعيهم اليوم إلى تبديلها بالدولار هو السبب، فهو مثير للدهشة حتى، إذ من أين للسوريين الذين تمارس عليهم سياسة التفقير منذ سبع سنوات ونيف، بالأموال، بل وحتى إن وجدت لدى فئة قليلة، فلماذا احتفظت بها خلال تراجع سعر الليرة إلى ما دون 600 للدولار قبل عامين، وتسعى إلى تبديلها اليوم بعد المؤشرات التي تدلل على ملامح انفراجات وإعادة إعمار، ما يعني تحسناً مقبلاً لسعر العملة السورية؟
كذلك هرب بعض محللي نظام الأسد إلى أسباب، ربما، وبأحسن الأحوال، تكون مساعدة، ولكنها ليست رئيسية أو حقيقية بتهاوي سعر صرف الليرة، من قبيل اضطرار التجار لشراء الدولار من السوق السوداء لتمويل صادراتهم بواقع انسحاب المصرف المركزي من تعهده السابق بتمويل المستوردات.
طبعاً من دون أن يذكر هؤلاء الجهابذة أن قطعاً أجنبياً دخل للتجار، وأكبر من متطلبات الاستيراد، جراء التصدير، خاصة بعد عقود دورتي معرض دمشق الدولي.
بيد أن أحداً، من هؤلاء "المحللين"، لم يأت على الأسباب الحقيقية وربما القصدية، التي قامت بها حكومة الأسد خلال الشهر الأخير، والتي أدت إلى تراجع سعر الصرف، وكأن ثمة "من يهمهم الأمر" يريدون جني أرباح وقوفهم إلى جانب "سيادة الرئيس" وقت باع الدولار بنحو 500 ليرة العام الفائت، ويسعى إلى مكافأة على فعلته "الوطنية" اليوم.
وإلا، من يبرّر، اقتصادياً على الأقل، أن يتم إغلاق ثلاث من أكبر شركات الصرافة في دمشق مطلع الشهر الجاري دونما سبب أولاً ومن دون إيجاد البديل ثانياً، ما يعني إثارة المخاوف لدى السوريين، والذين هم أصلاً، غير واثقين بعملتهم التي فقدت ألفاً بالمائة من قيمتها منذ مطلع الثورة عام 2011، بل ولم تتعاف رغم كل ما قيل عن انتصارات الأسد وعودة الروح إلى الاقتصاد السوري.
ومن يبرر أيضاً، وهو الأهم والأخطر، أن يتم تخفيض سعر فائدة الودائع من 12% إلى 8.7%، تزامنا من بدء تهاوي سعر الصرف، لتهجر الأموال خزائن المصارف وتزيد من المعروض النقدي في السوق، ما ساهم في زيادة تدهور سعر الصرف ترجمةً لمبدأ العرض والطلب.
ولعل العامل النفسي، الذي يدعمه تخبط مسؤولي الأسد، يأتي كفعل مهم ومساعد في تراجع سعر الليرة، وتراجع الثقة باكتنازها، ولو على مستوى ما يعادل 100 دولار.
فأن يكون الفارق بين السعر الرسمي وأسعار السوق السوداء أكثر من 60 ليرة سورية (سعر دولار الحوالة فيما السعر الرسمي 434 ليرة)، فهذا يزيد المخاوف لدى السوريين ويتأكدون أن علاج القضايا النقدية بالخطابات والوعيد لم يجد من ذي قبل، كما لن يجدي نفعاً اليوم.
نهاية القول: ربما يرى البعض أن تهاوي سعر صرف الليرة اليوم هو لعبة كبار بالتنسيق أو التواطؤ مع حكومة الأسد، وقد يكون لأجل بواقع تلبد الواقع السوري بالعديد من الاحتمالات وربما بعض الانفراجات.
لكن السؤال الذي قلما يتم طرحه في سورية الأسد، ما هو أثر تراجع سعر صرف الليرة على السوريين المثبتة أجورهم منذ عامين عند 40 ألف ليرة، أي نحو 80 دولاراً، فيما ارتفعت الأسعار أكثر من 10% خلال الشهر الأخير، وفي مقدمتها السلع الاستهلاكية والخبز، بل وتجاوز نسبة الفقر بعد الثورة 80%؟
للأسف، المواطن في دولة الممانعة الأسدية يأتي في ذيل الاهتمامات. فبدلاً من تعديل أجره بما يتوازى مع تراجع قيمة الليرة، يستمر الإحجام عن زيادة الرواتب رغم الوعود المتكررة منذ عامين، وتتواصل الفجوة الهائلة بين الدخل والإنفاق، إذ لا يقل إنفاق الأسرة عن 200 ألف ليرة شهرياً، وفقاً لمراكز في دمشق، في حين لا تزيد الأجور عن 40 ألف ليرة.
عندما تعتزم حكومة الأسد شراء أسلحة لقتل السوريين، لا تظهر أسباب تراجع موارد الخزينة وعجز الموازنة العامة، لكنها تتجلى بوضوح حين يُطرح على بساط البحث تحسين الوضع المعيشي للشعب السوري.