كان حقلُ المفاهيم السياسية من أوّل الحقول التي توجّهت إليها أقلام روّاد النهضة لتسميتها توليداً ونقلاً واقتباساً. وهي من بواكير نتائج لقاء الرحّالة الأوائل، ولا سيما الثالوث الرائد، الطهطاوي والشدياق وابن أبي الضياف، بالمنظومة الغربية. ذلك أنّ سير الحياة السياسية ونُظم الحكم ودواليب الممارسة الديمقراطية هي أبرز المحاور التي واجهتهم، في بداية الاحتكاك مع دول أوروبا، فابتكروا لها أسماءَ باللسان العربي، تنقل ما شاهدوه في باريس ولندن من المؤسّسات وما تمثّلوه من التصوُّرات، محاولين تقريبَها للقارئ العربي-المسلم الذي كان وقتها محكوماً بالفضاء الرمزي- الدلالي للخلافة العثمانية.
كان هذا القارئ نخبويّاً، أقرب إلى التقليد منه إلى التحديث، تلقّى تكوينه في المعاهد الدينية وتشبّع فيها من مبادئ "السياسة الشرعية". ولذلك خاطبه هؤلاء الروّاد بما يفهمه وصوّروا لوعيه أشياءَ السياسة من خلال المصطلحات الدينية التي كانت رائجةً في ظل السلطَنة العثمانية.
وبقيت المفردات السياسية، طيلة القرن التاسع عشر مشدودةً إلى الذاكرة الفقهية، ممزوجةً بجدل الفقهاء حول "السلطة" بما هي وظيفة دينية، يَتناولها رجال الدين ضمن أبواب الفقه وعلم الكلام. ولهذا استمدّوا تلك المفردات من الأدبيات السلطانية، ومن أشهر مَن كتب فيها أبو الحسن الماوردي وأبو يَعلى الفرّاء والغزالي، إلى جانب ابن تيمية والشهاب القرافي.
ولم يتخفّف المُصطلح السياسي العربي من ربقة هذا الإرث السلطاني إلا مطلعَ القرن العشرين، حين استفحل الاستعمار الغربي في البلاد العربية، فنشأت الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات لمكافحته، وبات خِطاب الأهالي شاملاً لكلّ المفردات، المستورَدة والأصيلة. وفي هذه الحِقبة، نشطت وسائل التوليد والابتكار المعجمي لنقل نتائج هذه التحوُّلات وما تستتبعه من كلماتٍ دالة عليها، ولا سيما تلك التي تَمتلك مقابلاً واضحاً في متون المعجمات.
وكان أول ما اعتُمد عليه، في هذه البدايات المتردّدة، آلية الاقتراض، إذ استعارت الضادّ من الألسن الأجنبية، وخاصة الفرنسية والإنكليزية، عدداً من الكلمات التي لا مقابل لها مثل: ديمقراطية، ودكتاتورية، وبرلمان، وسيناتور، وأثوقراطية، واكتفت بنَقلها صوتياً للإشارة إلى أجنبيّ المؤسّسات والمفاهيم. وقد عرّبت بعضها واشتقّت منها الأفعال والمصادر مثل: دَكتَرة ودَمْقَرَطة. إلا أنَّ المدلول العربي لهذه الدوال لا يتطابق تماماً مع مقابله الغربي.
ونشطت، بُعيد ذلك، الترجمة المعنوية وأتاحت لكلّ مصطلح أجنبي مقابلاً، جيءَ به من خبايا الذاكرة وأُعيدت له الحياة عبر الاشتقاق والتوسُّع والمجاز. ومن أمثلته الواضحة كلمات: حُكْم، وحاكِم، ومَحكوم وحكومة... ومن دقيق ما صيغ منها مفردتا "حَوْكمة" و"حكامة" اللتان اقتُرحتا للدلالة على مفهوم "Gouvernance" بما هو تدبير عقلانيّ لأجهزة الدولة ومواردها وشؤون الحُكم، وهما منحدرتان من جذر (ح. ك. م) الدال في الأصل على المتانة والعقل والرشاد. ومن هذا المصدر، اشتُقّ مفهوم "الترشيد" مقابلاً لــ "rationalisation politique" التي جعل منها ماكس فيبر علامة حداثة الدولة وإمساكها الرشيد بدواليب الحكم. ولا يخفى ما في هذين المصطلحيْن من استحضارٍ لـ"ذاكرة الكلمات العميقة"، حسب عبارة رولان بارت، مع أنهما صارا يُحيلان على آخر ما توصّل إليه العقل السياسي الحديث، بعد أن أضيفت إليهما معانٍ وضعيّة مُعَلمَنَة.
كما تمكّنت الضاد من الإحالة على ما يسمى بالمرجعية السياسية الكونية، بما هي سلسلة من المفاهيم العامة التي تشترك فيها كل أطراف المجتمع الدولي وتستخدمها في التبادل على الصعيد العالمي. وهو ما يجعل من هذه المصطلحات، ذات البعد الدولي، مقابلاً لما هو شائع في كل لغات العالم. فلا يختلف اثنان في معاني كلمات مثل: وزير، وانتخابات، ورئيس، وزيارة رسمية... لأنها تعود إلى نشاط المجتمع الدولي وشؤونه المشتركة.
هذا وقد أسهم الربيع العربي، وهو أيضًا ثورةٌ في اللسان وانقلابٌ في طريقة التعبير، في إغناء المعجم السياسي ومفرداته، وكان وراء نشأة عددٍ من الدوال التي تُصوّر تفكّك أنظمة الاستبداد وحصول الشعوب على حرياتها وما صاحبه من أحداثٍ. فقد كان "الربيع"، وهو الواقع في التاريخ، حقلاً خصيباً في أرض اللغة، تنامت فيه عشرات المصطلحات العفوية والعالِمة، التي عبّرت بها القوى الثورية عن مطالبها وانتقدت بها دكتاتورية الأجهزة البائدة وما مارسته قبل الثورات من قمع.
بيد أنّ للربيع ارتجاعاتٍ دلائليّة عنيفة: فقد قامت الحركات المتشدّدة بإحياء دوالّ قديمة جدّاً نبشت عنها في الذاكرة الفقهية مثل كلمات: ولاية، وإمارة، وركاز، وجزية، وسبي... بل وأعادت معها، في ساحة الواقع، المُمارسات الفظيعة المُحال عليها، ممّا خلق مشهداً لغويًّا أقرب إلى الفوضى المفاهيمية والفظاغة، إذ كيف تتجاور مفاهيم "رقّ" و"سَبيّة" مع ممارسات الديمقراطية؟
وفي هذا الصدد، ثمّة ظاهرة لم يُلتفت إليها وهي إعادة تدوير كلماتٍ، أصولها عريقةٌ، ولكنها استُخدمت للدلالة على مراجع حديثة حتى اكتَسبت حمولةً طارئة. ومن أمثلتها عبارة "أزلام النظام"، والمفردة جَمع "زُلَمَة" وتطلق، بحسب "لسان العرب" لابن منظور على "الرجل القصير الخفيف الظريف، شُبّه بالقَدَح الصغير، ويقال للرجل إذا كان خفيفَ الهيئة وللمرأة التي ليست بطويلة: رجل مُزلم وامرأة مزلمة (...). وقالوا: هو العبد زُلما، وزُلَمة وزِلْمة وزَلَمَة وزُلَمة أي قَدُّه قَدَّ العَبد، وحذوُهُ حَذوُهُ، وقيل: "معناه كأنه يشبه العبدَ حتى كأنه هو". ومن الأمثلة أيضاً عبارة "فلول النظام"، وهو جمع فِلّ وتُقال للقوم المنهزمين، من الفَلّ: أي الكسر، وهو مَصدر سُمّي به، وأخيراً "شِبّيح"، تصغير شَبح... وكلّها فصيحة قديمة، ولكنّ الاستخدام الدارج هو الذي وسّع من دلالاتها وأعطاها حمولاتٍ سلبية.
وأما مَن يتحكّم في هذا الاستخدام ويصنع الحمولات ويُوَلِّدها فهم اليوم كثرٌ، تداخلت دوائر خطاباتهم وتشابكت إلى درجة يستحيل معها تعيين مُبتكر أيِّ مصطلحٍ. فإلى جانب النخب السياسية واللغوية، يلعب الصحافيون والنقابيون والمتظاهرون العفويون دوراً بارزًا في إنشاء الكلمات وتثبيتها وتفعيلها داخل سياقاتهم التواصلية المترددّة والمُرتَجلة.
وقد شكّل المصطلح السياسي العربي موضوعاً للعديد من الكتب والمعاجم المختصة والدراسات لعلّ من أولاها بحث للمؤرّخ التونسي أحمد عبد السلام بعنوان: "دراسات في مصطلح السياسة عند العرب" (1978) وكتاب برنار لويس "اللغة السياسية في الإسلام" (1988). ومن آخرها "معجم المصطلحات السياسية" (2014) الذي أصدره "معهد البحرين للتنمية السياسية".
وهكذا، فقد تطوّر المُعجم السياسي العربي وغدا، رغم كثرة عوائقه وغموض عناصره، قادراً على تصوير أغلب مُكوّنات المشهد السياسي، سواء أكانت ذهنية مجرّدة أم مادية ملموسة. ومع ذلك، فإنّه ما زال يعاني من تركة القرون الوسطى، وتشوِّش صفاءَه مصطلحاتٌ مثل "رعية" و"بيعة" و"سلطان"، إذ يُنظر إلى الراعي كما لو كان "ظلّ الله في الأرض". وهذا مما يجدر تغييبه من السجلّ الراهن حتى تُبنى، في عالمنا، دُولٌ حديثة.