لا تزال الأفلام المعنية بالسِيّر الذاتية موضع نقاش، موزّع على النقد والجماليات، كما على العلاقات القائمة بين الصنيع البصري والمكوّنات المحيطة بالشخصية المختارة لسرد حكايتها. بين حين وآخر، يُعاد طرح سؤال البنى الفنية والتقنية والدرامية الخاصّة بهذا النوع السينمائي، خصوصاً أن بعض نتاجاته مبنيٌّ على قراءات تفكيكية للاجتماع والثقافة ومسالك العيش وأساليب التواصل، التي تُقيم فيها الشخصية، وتستخدمها في يومياتها.
نقاشٌ كهذا غير منتهٍ، لأن صناعة هذه الأفلام، في الغرب والشرق، غير متوقّفة. ورغم تكرار معظم نقاط النقاش وتداوله، تُستعاد ملاحظات أساسية يُفترض بها أن تؤدّي إلى نوعٍ من حلول تقي الصنيع من مزالق وأفخاخ، وتجعله أصدق وأكثر واقعية وشفافية وانفتاح على البيئات التي تساهم في تشكيل تلك الشخصية، بجوانبها كافة. وهذا ـ إذْ يبدو جوهرياً في صناعة السينما الغربية، المتمرّدة على قيود عائلية وقبائلية تفرض ما يريده "أصحاب الحقوق"(!) ـ يجد في العالم العربي مساحةً واسعةً لفرض رغبات هذه العائلة أو تلك القبيلة، اللتين (العائلة والقبيلة) تطمحان إلى "تشذيب" السيرة مما تعبترانه "مُضرّاً" بهما، قبل إضرارها بالشخصية.
وفي مقابل الحضور الجمالي لهذا النوع الفني في السينما الغربية، يجتهد سينمائيون عرب في إيجاد معادلات عربية للمفاهيم الغربية للسير الحياتية والذاتية، بحثاً عما هو خارج الشخصية ومحيطها، وذلك عبر الشخصية نفسها، ومحيطها أيضاً. في الغرب، تتحوّل السيرة إلى مرايا تعكس وقائع وحقائق مرتبطة بالشخصية المختارة، ومتعلّقة ـ في الوقت نفسه ـ بالمحيط الضيّق والواسع معاً الذي تحيا الشخصية فيه، وحيث يتمّ تبادل التأثيرات المختلفة بين الشخصية والمحيط.
المأزق العربي واضح المعالم: هناك ممنوعات صارمة تحول دون جعل السير الحياتية السينمائية مرايا شفّافة، تبدأ بسرد الشخصيّ كي تروي شيئاً من العام. والممنوعات تلك نابعةٌ من سطوة العائلة والقبيلة، اللتين تمسكان بزمام الأمور، استناداً إلى قوانين ملتبسة المعاني والتفاصيل، أو إلى قواعد "شفهية" معمولٌ بها كأنها دستور لا يُمَسّ. لذا، يستعين السينمائيّ العربي المحنّك بشتّى أنماط الحيل، للتمكّن من اختراق الجمود المطلوب (أو بعضه على الأقلّ) في صناعة صُور تتوغل في خصوصيات وحميميات في المبطّن والمخفيّ أيضاً. أو أنه يكتفي بفصلٍ من فصول السيرة تلك، للتعمّق فيها، بدلاً من الانفلاش على مسارات مديدة، تكون ـ في الوقت نفسه ـ أشبه بـ "حقل ألغام"، في اجتماعٍ عربي لا يزال يخشى قول الحميمي والخاص، مختبئاً وراء العموميات.
النموذج الغربيّ الأقدر على توضيح الصورة، يبقى الأميركي أوليفر ستون (1946)، الذي يجمع بعض أبرز مكوّنات السيرة الحياتية، ببعض أبرز المعطيات العامة، مخترقاً الذات والروح الخاصّتين بالشخصية، وفي الآن نفسه تفكيك بيئة ومسالك وأنماط اشتغال وعيشٍ، في محيطٍ تُقيم الشخصية فيه وتتفاعل وتتأثّر وتؤثِّر. فهو غير مكتفٍ بقول المعلوم، أو بعضه، عن ريتشارد نيكسون ("نيكسون"، 1995) أو جورج دبليو بوش ("دبليو"، 2008) مثلاً، لاهتمامه السينمائيّ بمكوّناتهما، أو ببعضها على الأقل، إنسانياً ونفسيّاً واجتماعيّاً وروحياً وثقافياً وتربوياً. وهو، بهذا، غير مهادن وغير متردّد وغير مبتعدٍ عن المخبّأ والمخفي فيهما، بقدر ما يخطو خطوات عميقة داخل بنى تصنع الشخصيتين، من دون تردّد أو خشيةٍ أو قلقٍ من تصرّف مضاد يمنعه أو يحول دون إتمامه ما يصبو إليه.
ذلك أن أوليفر ستون ذاهب بهذا كلّه إلى تثبيت هاجسٍ ثقافي ـ أخلاقيّ لديه، يتمثّل بإعادة القراءة السجالية العميقة لأحوال الأمة الأميركية، وبالتصدّي لأزمنتها ومساراتها وحكاياتها "الرسمية"، ولتقلبّاتها وجشعها، ولتعرية هذا كلّه أيضاً. حسٌّ وطنيّ يدفعه إلى مهادنة واستكانة، إثر جريمة "11 سبتمبر/ أيلول 2001" ("المركز الدولي للتجارة"، 2006)، لكنه يستعيد نبضه المتمرّد والتفكيكيّ سريعاً. هذا كلّه، من دون تناسٍ لهمومه الدولية، إذ يُغريه العالم وتخبّطاته وشخصياته أيضاً، فيُحقِّق نتاجات صادمة وسجالية غالباً.
آخر فيلم أميركي له في هذا الإطار، يحمل عنوان "سنودن" (2016)، المستند إلى حكاية إدوارد سنودن، الذي "يُعرّي" وكالتي الأمن القومي والاستخبارات المركزية، بكشفه فضيحة لا تزال تداعياتها تلاحقه لغاية الآن: السلطة الأمنية الأميركية تتنصّت على أفراد ومؤسّسات ودول حليفة. الروائي يتابع تفاصيل لقاءات سنودن (جوزف غوردن ـ ليفيت) مع المخرجة لوريس بويتراس والصحافي غلن غرينوالد، اللذين ينقلان حكايته من غرفة في فندق في هونغ كونغ (تمثيل ميليسا ليو وزاكاري كوينتو).
لكن تاريخ أوليفر ستون معروف: غالبية أفلامه المنضوية في إطار السير الحياتية تذهب إلى ما هو أبعد من السير الحياتية نفسها. مع سنودن، يختبر تجربة إضافية، تضعه أمام تحدّ يواجهه دائماً: تفكيك الذاتي الشخصي، بهدف قراءة العام بنظرة أخرى.