السيسي .. كلُّ البيض في سلَّة الخارج

30 يوليو 2020
+ الخط -

الشعب وقت الأزمات هو السَّند والذُّخْر الضروري، غير أن الحاكم إذا أوهن الصِّلات معه، أو إذا أوهنه، سيكون من الصعب عليه، عمليًّا، الاستقواء به. هذا ما حصل مع عبد الفتاح السيسي، وشعب مصر، وتجلّى، أخيرًا، في قضيةٍ بالغة الحيوية؛ هي خزّان سدّ النهضة؛ فليس أعزَّ من الماء، حين يُفقَد، أو يُهدَّد، فضلا عن كون تجرّؤ إثيوبيا، واستخفافها بردود فعل نظام مصر الراهن، لا يقتصر على السيسي، وطاقمه، بل إنه يمسُّ مصر كلَّها، فعلى الرغم من أن حاكم مصر يتفرّد بالقرار، ويتعالى على شعب مصر، ونُخَبِه المفكِّرة، والسياسية، إلا أن الضرر لا يصيبه هو، وفريقه من السياسيين والإعلاميين، بمقدار ما يَلحق بمصير هذا القُطر العربي المحوري. علَّق السيسي آماله على أميركا، ممثَّلة في رئيسها المأزوم، دونالد ترامب، لكنه الآن مشغول في أزماته الداخلية المتفاقمة، وفي استحقاقات الانتخابات الرئاسية المتقاربة، ثم تلقَّى الرئيس (يبدو أنه منشغل بالاستعراض أكثر من بنائه علاقاتٍ أكثر متانةً وواقعية)، صدمة جديدة، من روسيا والصين، برفض دعم الموقف المصري. 

روسيا والصين مضطرّتان إلى عدم القطع مع إثيوبيا، لصالح مصر، وينطبق هذا أكثر على الصين التي تُعَدُّ أكبر مستثمرٍ في إثيوبيا

أما كيف أوهن علاقته بمصر، فبِالافتئات على حقِّ الشعب في الاختيار، والانقلاب على الرئيس المنتخَب، أولًا، ثم بقبضته المستبدِّة، والأمنية؛ بالاعتقالات والأحكام (القضائية) القاسية، التي لم تقتصر على جماعة الإخوان المسلمين التي اتَّخذ من عدائها جسر العبور إلى حُكم مصر، فليس من مهماته إلا إنقاذ مصر وشعبها من هذا الغُول، ثم لتكن علاقاته بالجميع ممتازةً، حتى مَن يهدِّدون أمن مصر القومي فعلًا، كدولة الاحتلال، إسرائيل، وإثيوبيا، فقد طاولت مظالمه كلَّ مَن اختلف معه، أو شكّ في انصياعه المطلق، ممَّن سانده في انقلابه، وممن ترشَّح للرئاسة، وتجرَّأ على منافسة الزعيم الذي انتدبه القدر لمهمة إنقاذ مصر. وكيف أوهن شعب مصر؟ بتلك السياسات المتخبِّطة، فضلا عن فساده الذي أقرّ به، من بناء قصور رئاسية، مثلا، وهو لم ينفكّ يتحجَّج بفقر مصر، وفقر شعبها. وبالتوازي، لم يتوقف عن إطلاق الوعود، بواقعٍ مختلفٍ تمامًا، كما كان وعد، وحدَّد يوم 30/6/2020 أنه سيكون اليوم الذي يُري فيه المصريين دولة ثانية، وحضر ذلك اليوم، من دون أن يحضر الازدهار الاقتصادي لمصر، فقد تضاعفت ديون مصر الخارجية، من دون أن يلمس المواطن العادي أثرًا ملموسًا، بل على العكس، ارتفع الغلاء، وزاد الفقراء. وكان البنك الدولي قد أصدر بيانًا في مايو/ أيّار، من العام الفائت، قال فيه: إن نحو 60% من سكَّان مصر فقراء أو عرضة للفقر. وفي 1مايو 2020، قال في تقرير له: "ولا تزال هناك مخاوف بشأن رفاهة الأسر؛ نظرًا إلى عدم تعافي مستويات الدخل الحقيقي، بعد الزيادة الكبيرة في معدَّل التضخُّم، في السنتين السابقتين". 

في المأمول أن يتشكّل رأيٌ عامٌّ ضاغط في مصر، نحو حالةٍ سياسيةٍ شعبية ترتقي إلى المخاطر الراهنة

وحتى لو سدّدت الدولة قسمًا من تلك الديون، فإنه إن لم يُترجَم تحسُّنًا في مستوى حياة المواطن العادي، وإن لم تقلَّص دائرة الفقراء، فهذا يطرح أسئلةً مهمةً عن كيفية إدارة تلك الأموال المقترَضة، وعن جدواها الاقتصادية، وعن الأعباء الإضافية التي حمّلها الناس لتمكين الدولة من سدادها. 

وعلى الرغم من هذا الأداء، وهذه الطبيعة في حُكم السيسي، إلا أن المصريين لم يَسَعْهم، كما لم يسَعِ العرب، إلا أن يقفوا مع مصر، في هذه المحنة، وهذا التهديد الذي ينعكس على غذائها، وعلى فُرَص عمل كثيرين من أبنائها، كما ينعكس تهديدًا على قرارها، فمَن يهدِّدون مصر في قُوتها، وفي مياه نيلها، لن يتورَّعوا عن الالتقاء مع من يتحيَّنون الفُرَص لابتزاز مصر، في قضاياها، وفي قضايا عربية، استراتيجية، هؤلاء الواقفون مع مصر، في هذه الأزمة؛ من أبنائها، ومن العرب، يتجاوزون خلافهم، أو اختلافهم مع السيسي. ولكن هل يمكنه هو أن يَفيد من عدالة هذه القضية، ومن خطورتها، ليتجاوز، هو أيضًا، نظرته المستريبة، أم يمضي في الرِّهان الكُلِّي على العلاقات الخارجية؟ حتى وصل الحال بالسيسي إلى طلب مساعدة إسرائيل لإيجاد حلول لأزمة سدّ النهضة الإثيوبي. 

بالطبع، ليس من الوارد المطالبة بتهميش العلاقات الدولية، والسعي إلى استكثار الضغط على حكَّام إثيوبيا، ولكن هذه الورقة لا تنفع وحدها، من دون رديف حاضر من الشعب، باستنفار طاقته، لتكون رسالة إلى إثيوبيا، وإلى الدول المرغوب في دعمها، لكن الأرجح أن لجوء السيسي إلى هذه الورقة الشعبية؛ إلى أهل بلده، لن يكون، إذا كان، إلا حذِرًا، ومحدودا، لماذا؟ لأنه ببساطةٍ لا يأمن، وسط ذلك التفاعل الشعبي، انتقادًا له، أو لعلّه يخشى أن تُستغَل، من قُوى سياسية مناهضة. وهنا يظهر مقتل السُّلْطة التي تجشَّمت الحُكْم بالقوَّة، ومضت فيه بالإكراه، والقمع، حتى لمن عارضوا السيسي، أو بعض قراراته، وفق الدستور، وعلى أسس الدولة المصرية. وهذا أيضا ما تدركه إثيوبيا، جيِّدا، وتستغلُّه، أبشع استغلال، فقد قال وزير الخارجية الإثيوبي، غيدو أندارجاشو، في تغريدة له: "تهانينا، كان نهر النيل، وأصبح النهر بحيرة ستحصل منه إثيوبيا على التنمية التي تريدها، النيل لنا".

شعب مصر، على الرغم من إضعافه بالأوضاع الاقتصادية المنهِكة، إلا أنه، لو صلحت العلاقة مع حُكّامه، يُحسَب له حسابٌ كبير.

شعب مصر، على الرغم من إضعافه بالأوضاع الاقتصادية المنهِكة، إلا أنه، لو صلحت العلاقة مع حُكّامه، يُحسَب له حسابٌ كبير. أما الرِّهان على العامل الخارجي فلطالما كان محفوفًا بالمخاطر، وتقلُّ فاعليته، مع افتقاره إلى حالة التلاحُم المتجسِّدة بين السُّلطة والشعب، وضعف الموقف العربي، فالدول الفاعلة، لها حساباتُها، ومصالحها الخاصة القابلة للمساومة، والمقايَضة، كما أن لها أولوياتها، وأزماتها، كما هو حال إدارة ترامب. وأمَّا روسيا والصين، فهما مضطرّتان إلى عدم القطع مع إثيوبيا، لصالح مصر، وينطبق هذا أكثر على الصين التي تُعَدُّ أكبر مستثمرٍ في إثيوبيا، فقد قوبلت الاتصالات المصرية الهادفة إلى دفع روسيا والصين إلى لعب دورٍ ضاغط على إثيوبيا، في أزمة سدِّ النهضة، بالرفض. 

وينطبق على كليهما، كما نشرت صحيفة "العربي الجديد"، الاشتراك مع إثيوبيا في أنهما من دول منابع الأنهار، فهما تخشيان دعم قرارٍ قد يغدو استرشاديًّا في أيِّ أزمة قد تنشأ مستقبلًا، ويكون طرفها إحدى دول منابع الأنهار. وفي المأمول أن يتشكّل رأيٌ عامٌّ ضاغط في مصر، نحو حالةٍ سياسيةٍ شعبية ترتقي إلى المخاطر الراهنة، باستيفاء متطلَّبات ذلك؛ مِن عناصر العلاقة الضرورية بين الدولة وامتدادها الطبيعي المفترَض، لا بالاكتفاء بانتظاراتٍ خارجيةٍ شديدة الخطورة.