تبدو العلاقات الثنائية بين مصر وروسيا، خصوصاً في المجالات العسكرية والاستراتيجية والاستخباراتية، متجهة إلى مرحلة جديدة، على ضوء التطورات التي شهدتها التحقيقات في تحطّم الطائرة الروسية فوق شبه جزيرة سيناء نهاية الشهر الماضي.
ولا يمكن فصل الاجتماع الطارئ الذي عقده المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، عن الاتصال الهاتفي الذي جرى بين السيسي ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، والذي اختلف حول تفاصيله بيانا الرئاسة المصرية والكرملين، فالأولى اكتفت بعبارات "التأكيد على متانة العلاقة وتعزيز التعاون" بينما تحدث البيان الثاني صراحة عن أمرين مهمين؛ تعاون استخباراتي ثنائي، وتعاون لتشديد إجراءات الأمن تمهيداً لاستئناف رحلات الطيران المدني بين البلدين.
ولا شك أن مصر تحتاج الرحلات المدنية الروسية، فالسياحة الروسية كانت تمثل نحو 40 في المائة من إجمالي السياحة الأجنبية المتواجدة في مصر عشية حادث الطائرة، كما أن عودة الطيران الروسي إلى الأجواء المصرية ستكون أكبر رسالة إيجابية للدول والشركات الأوروبية الأخرى التي أوقفت تعاملها مع مصر كلياً أو جزئياً في سيناء وشرم الشيخ. ولا توجد أمام مصر حلول كثيرة في هذا السياق، إذ يؤكد مصدر في وزارة الطيران المدني، أنه لا بديل عن اتفاق بين القاهرة وموسكو على انتقال بعثة أمنية روسية دائمة إلى شرم الشيخ ومطارات أخرى مختارة في مصر، للمشاركة في الإشراف على الإجراءات الأمنية لفترة قصيرة أو طويلة، حسب اتفاق بين رئيسي الدولتين.
وعلى الرغم مما في هذا "الحل الوحيد" من ملامح انعدام الثقة في الأمن المصري، إلا أنه سيؤدي بالتدريج لعودة السياحة. ويضيف المصدر ذاته أن "الأمن المصري سبق واعترض على بعض الشروط التي وضعتها بعثات أمنية مؤقتة من روسيا وبريطانيا، لكن الوضع تغير الآن بعد ظهور النتائج الأولية للتحقيقات الروسية، ولم يعد أمام الأمن المصري رفاهية الاختيار".
ويشير المصدر إلى أن ما نشره تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في مجلته "دابق" عن استخدام عبوة موضوعة داخل علبة مشروب غازي لإسقاط الطائرة "يُعقّد موقف الأمن المصري كثيراً، لأنه ينسف سيناريو وضع المتفجرات كبضاعة أو حقيبة في قسم الأمتعة، وينسف أيضاً فكرة اختراق التنظيم لإحدى عصابات التهريب ومغافلة الأمن من خلالها، بل أصبح الأمر يتعلق باحتمال اشتراك موظف أو أكثر في مطار شرم الشيخ في زرع العبوة الناسفة داخل الطائرة".
ويرى المصدر المطلع على مجريات التحقيقات المصرية في الحادث، أن "ما نشره داعش من شأنه التأثير على اتجاه التحقيقات المصرية، التي كانت قائمة على فكرة الإهمال غير العمدي، أو تعمّد وضع المفخخات كبضائع مهربة، لكن الأمر اختلف الآن وبات أكثر خطورة".
غير أن الوضع الأمني الداخلي في المطارات ليس كل شيء تضعه روسيا نصب عينيها، فتصريحات المسؤولين الروس عن "أن كل الخيارات متاحة للرد" وكذلك استخدام المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، ثم اجتماع المجلس العسكري المصري، كلها مؤشرات على رد عسكري قريب تشترك روسيا ومصر في رسمه وتنفيذه، أو تستأثر به روسيا وتسمح مصر بتنفيذه.
اقرأ أيضاً: هل تستهدف روسيا الجماعات المسلحة بسيناء؟
وتجد مصر نفسها اليوم مطالبة أمام روسيا بالمزيد تجاه سورية، ارتباطاً بالوضع في سيناء، فلم يعد هناك شك في ارتباط التنظيم الذي تحاربه مصر بالتنظيم الذي تحاربه روسيا، وذلك إذا أرادت الحفاظ على علاقة "الصداقة والتعاون" التي تضمن حداً أدنى من الندية، وحتى لا يتحول الأمر إلى تغوّل روسيا في الشؤون الداخلية المصرية، أو تتعامل روسيا أحادياً مع سيناء كمنطقة عمليات ضد الإرهاب وتفرض أمراً واقعاً جديداً على نظام السيسي، الذي ستلاحقه اتهامات شعبية ودولية بالتفريط في السيادة الوطنية.
وهنا يبرز سيناريوهان أساسيان، الأول أن تحاول مصر امتصاص أثر المادة 51 التي تخوّل لروسيا ملاحقة الأخطار التي تواجهها، وذلك بإعلان تنسيق عسكري ثنائي بين البلدين وإشراك الطائرات الروسية في الحرب التي يشنّها الجيش المصري على "التكفيريين" في سيناء، والتي أثبتت الأيام بعد نحو عامين ونصف من انطلاقها أنها لم تحقق النتائج المطلوبة، وأن الخطر في سيناء تزداد وتيرته.
ولا شك أن دخول روسيا مجال الحرب في سيناء سيكون له أثر سلبي على قطاع السياحة الذي تناضل مصر لإحيائه وحمايته، فتحوُّل المعركة ضد تنظيم "ولاية سيناء" من حرب يشنها الجيش المصري وحده، إلى حرب يتدخّل فيها طرف أجنبي، من شأنه وصم المنطقة بأنها منطقة عمليات عسكرية دولية.
وستكون الصورة التي ينتهي بها هذا السيناريو، هي التي حاولت مصر تلافيها على مدار الأعوام الماضية، فعلى الرغم من تقلب الأوضاع السياسية والميدانية في البلاد عقب الإطاحة بنظام حكم حسني مبارك، إلا أن مصر حافظت على سيادتها الداخلية، التي ظلت "محلية الطابع" ولم تأخذ طابعاً تدويلياً إلا من خلال المواقف السياسية للدول الأجنبية تجاه الأحداث. ويقول قائد عسكري مصري سابق، رفض كشف هويته لـ"العربي الجديد"، إن هذا السيناريو يتطلب موافقة إسرائيل على قيام روسيا بعمليات عسكرية داخل المجال الجوي المصري، وذلك تطبيقاً لبنود انتشار القوات بمعاهدة كامب ديفيد، مؤكداً أن "إسرائيل لن تمانع في ذلك، بل أغلب الظن ستكون مرحبة، لأن تدويل الحرب على الإرهاب في سيناء سيُلحق بمصر ضرراً بالغاً".
أما السيناريو الثاني، فهو توسيع التعاون العسكري بين مصر وروسيا، ليشمل إشراك القاهرة في العمليات الحربية في سورية، ومساعدة موسكو للقاهرة في حربها ضد "التكفيريين" في سيناء. هذا السيناريو قد يحمل ملامح شراكة أوسع وأكثر ندية بين الطرفين، إلا أنه سيرتب مسؤوليات كبيرة على نظام السيسي داخلياً وإقليمياً. فعلى الصعيد المحلي لن يمر بسهولة قرار كهذا في ظل الرفض المصري الشعبي الملحوظ للموقف الروسي من رئيس النظام السوري بشار الأسد، وتعاطف المصريين مع المعارضة السورية.
وعلى الصعيد الخارجي، فإن خطوة كهذه قد تطيح بالعلاقات بين السعودية والسيسي، والتي تتسم بالبرود منذ تولي الملك السعودي سلمان بن عبدالعزيز الحكم، وقد تؤدي إلى وقف المساعدات السعودية التي وإن كانت متباطئة في الآونة الأخيرة، إلا أنها تظل من أهم روافد تنشيط الاقتصاد المصري، ودعمه باحتياجات الوقود.
ويدعم قرب تحقيق هذا السيناريو بصورته المذكورة أو بصورة أخرى قريبة منه، حقيقة أن بيان المجلس الأعلى للقوات المسلحة الصادر أمس الأول، أشار ولأول مرة منذ بداية الأزمة السورية، إلى "استعراض المجلس للأوضاع في سورية".
وإلى جانب هذين السيناريوين، يبرز سيناريو ثالث يرى المصدر العسكري نفسه ضرورة أن تدفع مصر في اتجاهه بقوة، باعتباره الحل الوحيد لضمان سيادة مصر على أراضيها وعدم اهتزاز صورتها أكثر أمام العالم، وهو أن تكتفي روسيا بدعم الجيش المصري في سيناء استخباراتياً وإمداده أيضاً بأسلحة حديثة، مقابل إعلان مصر تعاونها استخباراتياً فقط مع روسيا في حربها بسورية.
ويشير المصدر إلى أن هذا السيناريو قد يكون طوق النجاة لنظام السيسي، لكنه يجب أن يتكامل مع حزمة إجراءات أمنية مشددة بالتعاون مع الجانب الروسي على مستوى المطارات ورحلات الطيران المدني، حتى تثق موسكو في جدية القاهرة بتجاوز الأزمة الحالية.
ويوضح المصدر أن روسيا لها اليد العليا الآن في أي من السيناريوهات المطروحة، وأن تفضيلها سبيلاً على الآخر سيعتمد على تقييمها لجدية مصر ورغبتها في تطوير منظومتها الأمنية، ومدى ثقة بوتين في السيسي، ومدى رغبة موسكو في فتح جبهات حرب إضافية، أخذاً في الاعتبار أنها "لن تجد فرصة أفضل من الآن لكسب موقع مميز عسكرياً واستراتيجياً كسيناء، لتصبح بمثابة قاعدة لعملياتها في سورية والشرق الأوسط، لكن هذه الخطوة ستكلفها عناء تحدي الولايات المتحدة التي لن تكون راضية بالتأكيد".
اقرأ أيضاً: السيسي يتصل ببوتين.. ولافروف يؤكد حق الردّ "سياسياً وعسكرياً"