ابتدأ مشواري مع الواقعية والعبثية، منذ أن دخلت الجامعة اللبنانية، معهد الفنون الجميلة، في عام 2007. كان الانقسام بين طلاب المسرح والسينما حاداً تحت تصنيفين: الواقعية المتمثلة بمدرسة "ستانسلافسكي" والمدرسة العبثية التي لم يشرح لي أيّ من متبنّيها بمن تتمثل. الستانسلافسكيون هم جماعة "أحبك بكل وضوح"، أمّا العبثيون فهم جماعة "اهدِها حجراً، لتعبر عن قوة حبك لها".
اعتقدت أن هذا المشهد متعلق بالجامعة وباختصاص الفنون البصرية فقط، إلا أنه اتضح وجوده في كل مكان، خصوصاً عند الكتّاب الصحافيين وشعراء "فيسبوك" و"تويتر". وفي أحاديث "القهاوي"، دائماً ما ترتبط الثقافة بأولئك الذين لا نفهم ما يكتبون... ويأتي الحكم أننا لا نفهم كتاباتهم لأننا لسنا مثقفين مثلهم.
أسأت الظن عندما اعتقدت أن الثقافة تخدم الوضوح، بمعنى أنه كلما زادت ثقافة الكاتب، كان تعبيره في الكتابة أوضح وأسلس للقارئ، إذ يستطيع توظيف خبرته ومعلوماته وثقافته في سبيل إيصال الفكرة والمعلومة بأسرع وأسهل طريقة ممكنة للقارئ.
مثلاً شعراء "فيسبوك" العبثيون، أو كما أسميهم "السيكادليك"، يكتبون لنا ما يعدّونه شعراً. "رأيتك تركض في غُرفي، ولم يكن في الغرف مساحة... انهارت النسبية على عقلي، نعم استطعت أن أكسر من خلالك قانون الجاذبية"... وبطبيعة الحال تنتهي كل جملة بثلاث نقط للدلالة على عمق مموّه، هو مساحة من الشاعر لخيال القارئ.
بُعد آخر من "السيكادليك"، أولئك الذين يدّعون فن "الراب". يستخدمون كلمات فصحى غريبة جداً، أو مثلاً يكتبون كلمات عامية تنتهي بصور مجازية مريضة. لا أقصد الحكم، لكنها فعلاً كذلك. ابحثوا في رؤوسكم عن جمل بسيطة "درويشة"، قد تتبسط الكلمات أمامكم.
عالم آخر من العبثية، الصور. ترفع المثقفة صاحبة السيجارة الرفيعة، صورة لتفاحة مقضومة وتكتب تحتها "اغتصاب الفضاء حرية"، أو مثلاً صورة لها غير واضحة مع تعليق شعري عبثي، كان كتبه لها أحد شعراء "فيسبوك".
لكن، ماذا عن تواصل هؤلاء العبثيين مع المجتمع؟ يحدث أن النمط السائد لهؤلاء الذين يعتبرون أنهم مثقفون، هو قلة الكلام وكثرة الكحول في زوايا الحانات. طبعاً الصورة لا تكتمل من دون "سيجارة لف". أرجو ألا تختلط الصورة عليكم، فالكحول والسيجارة جزء من صورة "الثورجي الشيوعي"، لكنه يستبدل قلة كلام المثقف بكوفية وكثرة نظريات. القاسم المشترك بين الاثنين هو عدم فهمنا أو استيعابنا أفكارهما.
الطامة الكبرى هي علاقة حب بين "ثورجي" صاحب كوفية وسيجارة، ومثقفة "سايكدليكية" صاحبة بيوت شعرية عميقة... لا أدري كم من الوقت سوف يستغرق حوارهما لكي يصلا لأوّل قبلة...
اقرأ أيضاً: أسئلة ووجوه في المقهى