04 نوفمبر 2024
السَلَفِي والسياسي و"الزمن الجميل"
يرفض كثيرون من علماء الأنثروبولوجيا اليوم أن تكون المجتمعات الحديثة قد شكلت نهاية للتفكير الأسطوري، مع فارق يتمثل في أن التعارضات في أساطير المجتمعات البدائية، التي كانت تجري على مستوى الطبيعة، وما وراء الطبيعة، تؤول في المجتمعات الحديثة، إلى تعارضات صغرى، تدور أحداثها في مستوى التاريخ الدنيوي، وعلى الصعيد الاجتماعي.
ومع تزايد حالة الإحباط والقلق التي تعم عالمنا العربي، تعود أسطورة "الزمن الجميل"، لتطل علينا مع جرعة زائدة من نوستالجيا. يجري تكثيف هذا "الزمن الجميل"، لدى فئات عمرية معينة، عند لحظة بدت الحياة وما فيها بلونين، أبيض وأسود، حيث تلعب أجهزة التلفزة بأنظمتها البدائية، دور السجل/ الذاكرة للأسطورة وأحداثها. ووفق منطق هذه الأسطورة، تبدو سيدات الشاشة أجمل من دون ألوان اليوم وزينتها. يلوح السياسيون بألوانهم الرمادية بأيديهم لأمواج متلاطمة من الجماهير، ولعلهم يبدون أكثر حكمة ورحمة. سلاطين الطرب حين يصدحون، عمالقة لا يتكررون. يرى بعضهم هذا "الزمن الجميل"، وقد كان أكثر محافظة وتدينا، ويراه آخرون أكثر تحررا وعلمانية. يصر بعضهم، على الرغم من فقره الضارب في جذور تاريخه، الشخصي والعائلي، على أنه كان أكثر يسرا ورفاهية. وهناك من يجد فيه تكافلا وتضامنا وأخلاقا نفتقدها اليوم. حتى مياه ذلك الزمن، كانت أكثر عذوبة، وفاكهته أكبر حجما، وألذ طعما. في المحصلة، هو "الزمن الجميل" الذي لم تقتحمه بعد تعقيدات الحياة ومتاعبها بألوانها المتعددة، ليبدو الجميع وقد ضيّع كل منهم فردوسه.
مقولة القديس أوغسطين "الماضي الذي تعتقد أنه كان الزمن الجميل ليس جميلاً، إلا لأنه لم يكن زمنك"، كفيلة بأن تطيح هذا الوهم، حين تتضمن التأكيد على وجود عدة أزمنة جميلة لا زمن واحد. فمن سبقونا ونصف زمانهم بالجميل كان لديهم بدورهم ماض يعتقدونه جميلا، وبالنسبة للأجيال الأحدث، ربما يصبح زماننا غير الجميل جميلا بالنسبة لهم. مبكراً، يقف الجاحظ (ق3هـ) ضد هذا المنطق السلفي الذي يرى الكمال في الماضي، وأن الأسلاف لم يتركوا شيئا للأخلاف، فيكتب في كتابه (الحيوان): "ينبغي أن يكون سبيلنا لمن بعدنا، كسبيل من كان قبلنا فينا، على أنّا قد وجدنا العِبرَة أكثر مما وجدوا، كما أن من بعدنا يجد العِبَر أكثر مما وجدنا". وفي (البيان والتبيين): "إذا سمعت الرجل يقول: ما ترك الأول للآخر شيئا، فاعلم أنه ما يريد أن يفلح".
بمقتضى السيكولوجية الأسطورية، لا يمكن ترميم الحياة البشرية، بل يمكن إعادتها مجدداً عبر الرجعة إلى الأصول. وفي أساطير الشرق الأمثلة كثيرة، نكتفي بالتذكير بالفرعون أبساماتيك الذي، وعلى الرغم من مستوى التقدم الحضاري الذي حدث في عهده، رفع شعار"العودة إلى القدماء"، الذي انسجم مع الذهنية الأسطورية المهيمنة في حينه، والقائمة على الاعتقاد بأن أحداً لا يمكنه تقديم أفضل مما كان في زمن "رع"، الذي ابتدأت به الخليقة. وفي الأديان التوحيدية، تتيح بعض النصوص إمكانية لهذا الفهم الماضوي. فيشير يوحنا إلى المسيح بقوله "هذا هو الذي قلت عنه إن الذي يأتي بعدي صار قدّامي، لأنه كان قبلي"، وإمكانية إلغاء التاريخ البشري لصالح الإلهي: "أنا الألف والياء، البداية والنهاية، الأول والآخر". وفي القرآن الكريم "هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم".
ترافق ازدهار الحضارة العربية الإسلامية مع بروز تيار فكري عقلي، راح بحسه التاريخي يبني تصوراته عن الإنسان وعلاقته بالله والعالم. وعبر تأوّل آيات: "وكان عرشه على الماء" و"ثم استوى إلى السماء وهي دخان"، وغيرها، رفض مقولة "الخلق من عدم"، لصالح مقولة "قدم العالم"، ليحوز العالم بذلك تاريخه الخاص. في مقابل هؤلاء، وقف تيار نصي يرفض التأويل، ويرى في القياس تشريعاً عقلياً يخالف الدين الإلهي، متمسكا بظاهر النص (أبو داود الظاهري)، فألغى التاريخ البشري لصالح الإلهي، عبر مقولة "الخلق من عدم". بلغ هذا التيار إحدى أهم ذرواته في القرن الرابع الهجري، مع مجموعة من أتباع ابن حنبل، أطلقت على نفسها اسم "السلفية"، وألحت على مبدأ "اكتمال الأصل ونقيصة الفروع". ولا تعدو التيارات السلفية الحديثة والمعاصرة، بتوجهاتها العامة، أن تكون اجترارا لتلك السلفية، وفاعلية مخزون تذكري لنصوصها المختلفة، إلا أنها تشددت وتزمتت، بقدر ما ابتعدت زمنيا عن "الأصل المكتمل".
مقارنة بالأديان الأخرى، يبدو القرآن أكثر تجريداً، حين يخاطب الإنسان بمعزل عن أي وضعية اجتماعية وتاريخية محددة، ما أدى إلى تعددية في فهم الخطاب القرآني، بتعدد الوضعيات الاجتماعية والتاريخية لمتلقي هذا الخطاب، الأمر الذي ترك الباب مفتوحاً لتحويل الدين إلى أيديولوجيا. ومع ادعاء السلفيين امتلاكهم الحقيقة الدينية، بوقوفهم عند ظاهر النص ورفضهم التأويل، فهم متأولون أيضا، طالما كان فهمهم هذا مشروطاً بوضعيتهم الاجتماعية والتاريخية الخاصة، لكن الفارق أنهم يرفعون هذا الفهم إلى مرتبة وحي فوق التاريخ. وهنا، نحن أمام أيديولوجيا، تلغي الإنسان والتاريخ، ولا تنتصر للأصل، كما تدعي، بل تشوهه، حين تصر على اختزاله في بنية ثابتة مغلقة، يفسر فيها السابق كل ما هو لاحق ويمنحه معناه. بيد أن الإسلام الباكر قد تميز بتوجهات عقلية، وبحس تاريخي ودنيوي، تمثلت في قول النبي "أنتم أعلم بشؤون دنياكم"، وبدستور المدينة الذي دمج الوضعي (أعراف القبائل) بالديني، من دون أي حرج، وفي إدراك عمر بن الخطاب ضرورة تغير الأحكام بتغير الأزمان، وفي قول علي بن أبي طالب "لا تقصروا أولادكم على آدابكم، فهم مخلوقون لزمان غير زمانكم". ولولا هذا وذاك، لما ازدهرت حضارة عربية إسلامية، غيّرت حاضراً وصنعت مستقبلا.
وإذا كان لا شيء يشبه الفكر الأسطوري أكثر من الأيديولوجيا السياسية، حسب تعبير ليفي ستراوس. فإن التحالف الأيديولوجي، بين الديني والسياسي، ينتهي بتكريس سلطة معرفية تتغلغل في الثقافة الشعبية، لتصوغ تصوراتها وتتحكم في ردود أفعالها. هنا، تلتقي أسطورة "كمال الأصل ونقيصة الفروع"، مع أساطير السياسة المختلفة التي لا تقل عنها سلفية: "الأصل المُؤسِّس"، "الحدث الخالد"، "اللحظة التاريخية"،... وغيرها. ومع هذه وتلك، تتناغم أسطورة "الزمن الجميل".
هذه الأساطير باتت عنواناً عريضا للهيمنة والإخضاع، عبر تكريس الانسلاخ عن الواقع والعجز عن مواجهته، فالأسطورة ليست صفة العقل الذي يحقق استقلاليتة النسبية تجاه العالم، فيتعالى عليه، ليفسره موضوعيا، بل صفة الإنسان الذي لا يستطيع أن يرى نفسه خارج العالم، فلا يطمح إلى الفهم، بقدر ما يسعى إلى الطمأنينة، ويلوذ بالحنين المرضي إلى الماضي، على حساب التطلع إلى المستقبل، مكتفياً بإضفاء عواطفه ورغباته على العالم، منتظرا منه الامتثال لها.
ربما قارب الشاعر الأميركي، آرتشيبولد، حالنا وما نحن عليه، حين قال: "عندما تعالج مسائل أكبر من طاقتك، لكنها ملحّة، فإنك مضطر إلى أن تؤويها في مكان ما. وإذا وجدت جداراً قديماً، كان فيه عون لك". فكيف "يريد أن يفلح"، يا أبا عثمان، من هذه حاله؟
مقولة القديس أوغسطين "الماضي الذي تعتقد أنه كان الزمن الجميل ليس جميلاً، إلا لأنه لم يكن زمنك"، كفيلة بأن تطيح هذا الوهم، حين تتضمن التأكيد على وجود عدة أزمنة جميلة لا زمن واحد. فمن سبقونا ونصف زمانهم بالجميل كان لديهم بدورهم ماض يعتقدونه جميلا، وبالنسبة للأجيال الأحدث، ربما يصبح زماننا غير الجميل جميلا بالنسبة لهم. مبكراً، يقف الجاحظ (ق3هـ) ضد هذا المنطق السلفي الذي يرى الكمال في الماضي، وأن الأسلاف لم يتركوا شيئا للأخلاف، فيكتب في كتابه (الحيوان): "ينبغي أن يكون سبيلنا لمن بعدنا، كسبيل من كان قبلنا فينا، على أنّا قد وجدنا العِبرَة أكثر مما وجدوا، كما أن من بعدنا يجد العِبَر أكثر مما وجدنا". وفي (البيان والتبيين): "إذا سمعت الرجل يقول: ما ترك الأول للآخر شيئا، فاعلم أنه ما يريد أن يفلح".
بمقتضى السيكولوجية الأسطورية، لا يمكن ترميم الحياة البشرية، بل يمكن إعادتها مجدداً عبر الرجعة إلى الأصول. وفي أساطير الشرق الأمثلة كثيرة، نكتفي بالتذكير بالفرعون أبساماتيك الذي، وعلى الرغم من مستوى التقدم الحضاري الذي حدث في عهده، رفع شعار"العودة إلى القدماء"، الذي انسجم مع الذهنية الأسطورية المهيمنة في حينه، والقائمة على الاعتقاد بأن أحداً لا يمكنه تقديم أفضل مما كان في زمن "رع"، الذي ابتدأت به الخليقة. وفي الأديان التوحيدية، تتيح بعض النصوص إمكانية لهذا الفهم الماضوي. فيشير يوحنا إلى المسيح بقوله "هذا هو الذي قلت عنه إن الذي يأتي بعدي صار قدّامي، لأنه كان قبلي"، وإمكانية إلغاء التاريخ البشري لصالح الإلهي: "أنا الألف والياء، البداية والنهاية، الأول والآخر". وفي القرآن الكريم "هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم".
ترافق ازدهار الحضارة العربية الإسلامية مع بروز تيار فكري عقلي، راح بحسه التاريخي يبني تصوراته عن الإنسان وعلاقته بالله والعالم. وعبر تأوّل آيات: "وكان عرشه على الماء" و"ثم استوى إلى السماء وهي دخان"، وغيرها، رفض مقولة "الخلق من عدم"، لصالح مقولة "قدم العالم"، ليحوز العالم بذلك تاريخه الخاص. في مقابل هؤلاء، وقف تيار نصي يرفض التأويل، ويرى في القياس تشريعاً عقلياً يخالف الدين الإلهي، متمسكا بظاهر النص (أبو داود الظاهري)، فألغى التاريخ البشري لصالح الإلهي، عبر مقولة "الخلق من عدم". بلغ هذا التيار إحدى أهم ذرواته في القرن الرابع الهجري، مع مجموعة من أتباع ابن حنبل، أطلقت على نفسها اسم "السلفية"، وألحت على مبدأ "اكتمال الأصل ونقيصة الفروع". ولا تعدو التيارات السلفية الحديثة والمعاصرة، بتوجهاتها العامة، أن تكون اجترارا لتلك السلفية، وفاعلية مخزون تذكري لنصوصها المختلفة، إلا أنها تشددت وتزمتت، بقدر ما ابتعدت زمنيا عن "الأصل المكتمل".
مقارنة بالأديان الأخرى، يبدو القرآن أكثر تجريداً، حين يخاطب الإنسان بمعزل عن أي وضعية اجتماعية وتاريخية محددة، ما أدى إلى تعددية في فهم الخطاب القرآني، بتعدد الوضعيات الاجتماعية والتاريخية لمتلقي هذا الخطاب، الأمر الذي ترك الباب مفتوحاً لتحويل الدين إلى أيديولوجيا. ومع ادعاء السلفيين امتلاكهم الحقيقة الدينية، بوقوفهم عند ظاهر النص ورفضهم التأويل، فهم متأولون أيضا، طالما كان فهمهم هذا مشروطاً بوضعيتهم الاجتماعية والتاريخية الخاصة، لكن الفارق أنهم يرفعون هذا الفهم إلى مرتبة وحي فوق التاريخ. وهنا، نحن أمام أيديولوجيا، تلغي الإنسان والتاريخ، ولا تنتصر للأصل، كما تدعي، بل تشوهه، حين تصر على اختزاله في بنية ثابتة مغلقة، يفسر فيها السابق كل ما هو لاحق ويمنحه معناه. بيد أن الإسلام الباكر قد تميز بتوجهات عقلية، وبحس تاريخي ودنيوي، تمثلت في قول النبي "أنتم أعلم بشؤون دنياكم"، وبدستور المدينة الذي دمج الوضعي (أعراف القبائل) بالديني، من دون أي حرج، وفي إدراك عمر بن الخطاب ضرورة تغير الأحكام بتغير الأزمان، وفي قول علي بن أبي طالب "لا تقصروا أولادكم على آدابكم، فهم مخلوقون لزمان غير زمانكم". ولولا هذا وذاك، لما ازدهرت حضارة عربية إسلامية، غيّرت حاضراً وصنعت مستقبلا.
وإذا كان لا شيء يشبه الفكر الأسطوري أكثر من الأيديولوجيا السياسية، حسب تعبير ليفي ستراوس. فإن التحالف الأيديولوجي، بين الديني والسياسي، ينتهي بتكريس سلطة معرفية تتغلغل في الثقافة الشعبية، لتصوغ تصوراتها وتتحكم في ردود أفعالها. هنا، تلتقي أسطورة "كمال الأصل ونقيصة الفروع"، مع أساطير السياسة المختلفة التي لا تقل عنها سلفية: "الأصل المُؤسِّس"، "الحدث الخالد"، "اللحظة التاريخية"،... وغيرها. ومع هذه وتلك، تتناغم أسطورة "الزمن الجميل".
هذه الأساطير باتت عنواناً عريضا للهيمنة والإخضاع، عبر تكريس الانسلاخ عن الواقع والعجز عن مواجهته، فالأسطورة ليست صفة العقل الذي يحقق استقلاليتة النسبية تجاه العالم، فيتعالى عليه، ليفسره موضوعيا، بل صفة الإنسان الذي لا يستطيع أن يرى نفسه خارج العالم، فلا يطمح إلى الفهم، بقدر ما يسعى إلى الطمأنينة، ويلوذ بالحنين المرضي إلى الماضي، على حساب التطلع إلى المستقبل، مكتفياً بإضفاء عواطفه ورغباته على العالم، منتظرا منه الامتثال لها.
ربما قارب الشاعر الأميركي، آرتشيبولد، حالنا وما نحن عليه، حين قال: "عندما تعالج مسائل أكبر من طاقتك، لكنها ملحّة، فإنك مضطر إلى أن تؤويها في مكان ما. وإذا وجدت جداراً قديماً، كان فيه عون لك". فكيف "يريد أن يفلح"، يا أبا عثمان، من هذه حاله؟