الشبكية ليست مجرّد تكنولوجيا صمّاء
لا يمثّل الكتاب الصادر أخيرا للكاتب الأردني إبراهيم غرايبة، الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، "من الهرمية إلى الشبكية: وجهة الدول والمجتمعات في عصر اقتصاد المعرفة" (دار الآن ناشرون، عمّان، 2020)، مجرّد دراسةٍ علمية تضاف إلى ما قدّمه هو أو غيره للمكتبة العربية من إنتاجات معرفية.
الكتاب، كسائر كتب غرايبة، هو نتيجة مرحلة طويلة وشاقّة ومجهدة من التأمل والتفكير والقراءة والبحث والمعايشة للأفكار والتحولات التي تجرف صاحبها معها، في أحيان كثيرة، إلى حيث تلقي به من نتائج وخلاصات، حتى لو وجد نفسه في بئرٍ عميق أو على قمّة جبل شاهق، فغرايبة بحّار في عالم الثقافة والفكر الحرّ، ترك نفسه لهذا القدر.
ولا يخرج أي كتابٍ ينجزه غرايبة عن محيط بحثه الذي يمزج التجربة الشخصية بالفضول المعرفي والبحثي العميق، إلّا أنّ "من الهرمية إلى الشبكية" يمثّل، ولا أعرف إن كان يتفق معي صديقي المؤلف، أحد أهم المشروعات التي كرّس جلّ وقته وأفكاره وبحثه لإنجازه، وكان بمثابة "المنهج" الذي رسم خطواته في الطريق لمحاولة فهم وإدراك حجم التحولات الضخمة التي تحدث من حولنا، والمرتبطة بما أصبح يطلق عليه "الثورة الرابعة".
أعمدة السلطة التقليدية الهرمية انهارت لصالح اتجاهات جديدة من القوى الأفقية الشبكية الجديدة
ولع غرايبه المبكّر بالمعرفة والقراءة، وهو الذي عرفه مثقفون عربٌ كثيرون من خلال مقالاته المخصصة لقراءة الكتب في المجلات العلمية والصحف العربية المشهورة، قاده إلى متابعة كل جديد في عالم المعرفة، وأصبح موضوع انتقال العالم إلى عصر الشبكية هاجساً معرفياً حقيقياً له، لاكتشاف حجم ما يمكن أن يُحدثه ذلك من تحوّلاتٍ كونيةٍ ومجتمعيةٍ ضخمة. وقد لا أبالغ بالقول إنّه كان من السبّاقين عربياً للإشارة إلى أنّ المجتمعات البشرية أمام موجةٍ جديدةٍ من التغيرات المرتبطة بالاكتشافات العلمية الجديدة المختلفة، ذات الطبيعة الشبكية.
قبل عقد، خصّصت فصلاً في أطروحة الدكتوراه (صدرت لاحقاً في كتاب "الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي"، الشبكة العربية للأبحاث والترجمة)، لتحليل أجزاء من مشروع غرايبة الفكري، وقد خرج من رحم الإسلام السياسي حينها، بعد أن كان أحد أبرز منظّريه في الأردن ومن أشهر دارسيه، إلى المقاربة المعرفية والثقافية. وكتبت عن رؤيته في ضرورة الانتقال من الإصلاح الهرمي إلى الشبكي، لأنّ ما يحدث من اكتشافات علمية وصناعية كبرى ستعيد صياغة العالم من حولنا في كل شيء، وفي مقدّمة ذلك مفاهيم السلطة والمجتمع والقوى المؤثرة والمهمينة، فكان يدعو إلى التحرّر من فكرة أنّ السلطة متكوّرة في داخل النظام السياسي بصورة هرمية في كل دولة، فبعض رجال الأعمال والاقتصاديين أصبحوا يملكون من القوة والنفوذ ما لا يملكه أي زعيم سياسي، وربما ناشط على "السوشال ميديا" يكون أكثر تأثيراً من مجموعة وزراء مجتمعين، فضلاً عن أن أعمدة السلطة التقليدية الهرمية انهارت تماماً لصالح اتجاهات جديدة من القوى الأفقية الشبكية الجديدة، وكانت بذرة مشروع غرايبة تتمثّل بالتركيز على المجتمعات بدلاً من السلطة السياسية، لأنّ مصادر القوة تتسرّب من يد السلطة إليها.
في كتابه الصادر أخيرا نجد تطويراً وتجذيراً لرؤية غرايبة لتحولات الشبكية العالمية (مع عصر المعلوماتية والثورة الرابعة والحوسبة والتشبيك والتصغير والأنسنة والجينوم والروبتة والطابعات ثلاثية الأبعاد والبرمجة الإدراكية والمعلوماتية)، إذ يرى أنّ هذه التحولات، وما تؤدي إليه من تغيرات في الأسواق والاقتصاد، ستنشأ عنها "منظومة اجتماعية ثقافية" جديدة، وهو وإن كان يقرّ بأنّ أبعاد هذه المنظومة غير واضحة تماماً بعد، لكن هذا جزء من طبيعة المرحلة المسكونة بالشك وعدم اليقين، ولعلّ ذلك، بحدّ ذاته، محفّزٌ للإبداع والتفكير الحر والخيال الذي قد يؤدّي إلى اكتشافات ونتائج جديدة.
غرايبة: الإنسان يواجه تحدياً حقيقياً في أهمية ومعنى وجوده، أو يجب أن يبحث عن معنى جديد يتميز به، ولا تستطيع التكنولوجيا الجديدة أن تفعله"
يختزل غرايبة فرضية الكتاب الرئيسية بإطلاق مصطلح "تكنولوجيا المعنى" على التكنولوجيا الجديدة، وتمييزها عن أنماط التكنولوجيا السابقة، لماذا؟.. "لأنّ التكنولوجيا الحاسوبية والشبكية وما بعدها تحاكي الإنسان، وتؤدي معظم، إن لم يكن جميع، ما كان يعمله بنفسه، إنها لا تحل فقط مكان الإنسان في الأعمال والمؤسسات، لكنّها أيضاً تنجز ما كان يتميّز به الإنسان عن الآلة، وما كانت لا تستطيع أن تؤدّيه، فقد كرّس الإنسان لنفسه فكرة مركزية هي "المعنى" كالتفكير والتحليل والخيال والشعر والذكاء والتعلم واتخاذ القرارات وتصميم السياسات والتوقعات وكثير من الأعمال والمهن العادية والمتقدّمة أيضاً،..، وهكذا فإنّ الإنسان يواجه تحدياً حقيقياً في أهمية ومعنى وجوده، أو يجب أن يبحث عن معنى جديد يتميز به، ولا تستطيع التكنولوجيا الجديدة أن تفعله".
ثم يضيف المؤلف، موضّحاً ثيمة الكتاب، "الحديث عن هيمنة التكنولوجيا على المعنى ليس توقعاً مستقبلياً ولا فكرة نظرية، لكنّه أمر واقع يتشكّل أسرع مما يتوقع معظم الناس، وربما يكون العالم بحلول منتصف القرن الحالي عالماً آخر مختلفاً في تنظيمه ومؤسساته وأعماله وأفكاره وقيمه، ويمكن في هذه المساحة أن نفكّر في مجموعة القضايا والأفكار العملية المطروحة في الفضاء العام".
ربما عجّل وباء كورونا الولوج إلى عصر الشبكية. هكذا كتب غرايبة على حائطه على "فيسبوك" قبل أشهر، ويأتي الكتاب الجديد ليصحبنا المؤلف فيه إلى تحرّي هذه التحولات الضخمة التي تجري على مختلف المستويات، المعرفية والاقتصادية والثقافية والسياسية والمجتمعية، والاتجاهات التي تتشكّل من خلال ذلك، في رحلةٍ ممتعةٍ ومتعبةٍ ننتقل في "فصولها" ما بين روايات الخيال العلمي واكتشافات البحث العلمي والتحولات الاجتماعية والثورات العلمية التاريخية لنبصر مع المؤلف ملامح عالم جديد يتشكّل..