من خلال حوادث منفصلة، تتكشّف من حين إلى آخر تلك العنصرية بين رجال شرطة فرنسيين، فيما يميل أشخاص كثر إلى تعميم الأمر على كامل السلك في البلاد.
"هذا البلد يستحقّ حرباً عرقية قذرة. على هؤلاء الكلاب أن ينفقوا". هذا ما قاله شرطي فرنسي يعمل في مدينة روان، شمال غربي فرنسا، لزملائه في مجموعة محادثة تجمعهم على تطبيق "واتساب". بالنسبة إلى شرطي آخر، "إذا أردنا التصرّف بذكاء، نحن القوميين العرقيين، فسيتعيّن علينا أن نفتح المجال لتناحر المدافعين عن حقوق الأقليات في ما بينهم، أن نجبرهم على إبادة بعضهم البعض". أضاف أنّ "الشواذ ومجتمع الميم وكلّ هذا الهراء، سيتولّى المسلمون أمرهم. وعندما سيبدأ كلّ هؤلاء، الناشطات النسويات ومجتمع الميم واليهود والعرب والزنوج من غير المسلمين بالتناحر في ما بينهم، حينها تبدأ أنت بتناول الفشار ومشاهدة التلفاز وشحذ أسلحتك. وعندما ينال الضعف منه، تجهز أنت على الحيوانات". أمّا شرطي ثالث فأكّد: "أنا لا أنتظر إلا شيئاً واحداً: أن ينفق كلّ هؤلاء الناس (…) سيسمح ذلك بتجديد العرق الإنساني والعرق الأبيض قبل أيّ شيء".
في مجموعة التواصل تلك، يتبادل أكثر من عشرة رجال شرطة يؤمنون بتفوّق "العرق الأبيض" رسائل صوتية مشحونة بالكره والعنصرية تجاه كل الذين يرون أنّهم "يستحقّون أن ينفقوا". ومن بين هؤلاء زميلهم في العمل، ألكس، ذو البشرة السوداء، الذي اكتشف اسمه في محادثاتهم مرفقاً بأقذع التعابير العنصرية والحاقدة، ما دفعه إلى رفع دعوى ضدهم.
لم تخرج التسجيلات العنصرية التي تبادلها عناصر الشرطة المذكورون إلى العلن إلا قبل أيام، في حين تشهد فرنسا حراكاً واسعاً ضدّ العنصرية المتفشية في صفوف "رجال الأمن"، في أعقاب التظاهرات التي خرجت في الولايات المتحدة الأميركية احتجاجاً على مقتل جورج فلويد أثناء إلقاء شرطي القبض عليه. وبخلاف البلدان الأوروبية المجاورة، حيث خرجت تظاهرات لتدين بشكل أساسي مقتل الشاب الأميركي قبل أن تشهد انحساراً في الأيام الأخيرة، أخذ مقتل جورج فلويد بعداً محلياً في فرنسا، وما زالت التظاهرات المناهضة للعنصرية تخرج بأعداد كبيرة في مختلف المدن. يُذكر أنّه، في تظاهرات السبت الماضي، كانت مطالبة بالعدالة لضحايا عنصرية الشرطة وعنفها، في مقدّمتهم الشاب أداما تراوري الذي لقي حتفه في أثناء ملاحقته من قبل الشرطة في عام 2016.
يعيد عالم الاجتماع الفرنسي المتخصص في شؤون الشرطة، فابيان جوبار، في حديث إلى "العربي الجديد"، اتساع الاحتجاجات في المدن الفرنسية إلى "امتلاك فرنسا تاريخاً خاصاً بها على مستوى العنصرية، لا سيّما في صفوف رجال الشرطة الذين تسببوا في السنوات القليلة الماضية في مقتل عدد من الشباب من أصول أفريقية أو عربية خصوصاً، في أثناء اعتقالهم أو مطاردتهم. وبهذا المعنى، يأتي مقتل جورج فلويد ليحيي جرحاً فرنسياً مفتوحاً يحمل أسماء شباب مثل وسام اليامني الذي قضى في أثناء اعتقاله (2012)، أو تيو لوهاكا الذي عنّفه عناصر شرطة واغتصبوه (2017)، أو أبو بكر فوفانا الذي قُتل بعيار ناري أطلقه رجل أمن (2018)، وبالتأكيد أداما تراوري".
يضيف جوبار: "لم يجرِ توثيق موت أداما تراوري بأفلام مصوّرة كما حدث مع جورج فلويد، لكنّ صور الأخير وهو ينازع تحت ركبة الشرطي الذي أوقفه سمحت للناس بتصوّر الطريقة التي مات بها أداما تراوري قبل أربع سنوات. تأتي صور موت فلويد لتحيي موت تراوري الذي يبدو كأنّه وقع للتوّ". ومثل فلويد، مات الشاب الفرنسي مخنوقاً في أثناء محاولة عناصر من الشرطة الفرنسية اعتقاله، لكنّ تقرير الطبيب الشرعي تحدّث عن "متلازمة اختناقية" من دون تحديد مسؤولية عناصر الشرطة في ذلك.
ويرى جوبار أنّ "ثمّة سببَين آخرَين للزخم المسجّل في فرنسا، يتمثل أوّلهما بالنشاط الكثيف والمستمرّ منذ سنوات الذي تقوم به جمعيات وحركات مناهضة للعنصرية وللعنف في صفوف الشرطة الفرنسية، وهو نشاط بنى حوله قاعدة شعبية واسعة". وليس مفاجئاً، في هذا السياق، أن تكون الجهة التي حشدت لكبرى التظاهرات المناهضة لعنف الشرطة وعنصريتها في فرنسا، بما فيها تظاهرات يوم السبت الماضي، هي "تجمّع الحقيقة والعدالة لأداما" الذي تقوده أخت الشاب أداما، آسا تراوري، ويضمّ عدداً من الناشطين والشخصيات العامة. "أمّا السبب الثاني، فهو الاحتقان الكبير الذي عرفته البلاد في خلال فترة العزل التي عاشتها بين منتصف مارس/ آذار ومنتصف مايو/ أيار الماضيَين للحدّ من انتشار فيروس كورونا الجديد. وقد بلغ التوتر درجات قصوى في الأحياء الشعبية ما بين رجال الأمن وشباب من تلك الأحياء". ويشرح جوبار أنّ "شروط العزل الصارمة وحالة الطوارئ الصحية منحت بعض رجال الشرطة مجالاً للنيل من هؤلاء الشباب من دون التعرّض للمحاسبة"، وهو الأمر الذي يدفع سكان هذه الأحياء إلى الردّ بالتظاهر بكثافة ضدّ ممارسات الشرطة.
وبحسب تحقيق نشره "المدافع عن الحقوق" جاك توبون، وهو يمثل هيئة إدارية عليا مستقلة، في عام 2017، فإنّ احتمال تعرّض شباب سود أو عرب للتوقيف والمساءلة من قبل رجال الأمن تزيد 20 مرة عن احتمال تعرّض شاب أبيض لذلك. أضاف التحقيق أنّ نسبة الشباب السود أو العرب الذين يقولون إنّهم تعرّضوا للتوقيف في خلال السنوات الخمس الماضية تصل إلى 80 في المائة من بين الأشخاص الذين استُطلعت آراؤهم، في حين تنخفض هذه النسبة بين عامة الفرنسيين إلى 16 في المائة في خلال المدة نفسها.
وهذه الأرقام والحقائق تجعل الحديث عن "عنصرية منهجية" لدى رجال الأمن أمراً متفقاً عليه لدى أكثر المتابعين للملف من باحثين وناشطين. وهي، على أيّ حال، عنصرية مختلفة عن العنصرية التي قد تمارسها باقي شرائح المجتمع. ويقول جوبار: "لا يمكن اتخاذ الشرطة مثالاً عن العنصرية في بقيّة المجتمع الفرنسي. الشرطة حالة خاصة. قد يفرّغ شخص ما عنصريته عبر الحديث عن أو إلى شخص آخر، أمّا الشرطي فيمارسها في الفضاء العام وباسم القانون أمام أعين الناس وعدسات الكاميرات". يضيف أنّ "رجال الأمن يعملون في بيئة تحكمها ثقافة من الصرامة والحذر، لها تاريخها المرتبط بتاريخ فرنسا نفسها. هم مكّلفون بمهمة مراقبة الأجانب والمهاجرين والذين يبدون كتهديد للأمن العام، كما أنّهم يعملون وفق تقسيمات نمطية تفرز الناس بحسب ألوان بشرتهم وتقاسيم وجوههم. وفي ظروف عمل كهذه، وفي ظل غياب وسيط اجتماعي بينهم وبين هذه الشرائح المهمّشة من الشباب، لا يبقى إلا خطّ رفيع جداً يفصل بين أدائهم المهمة الموكلة إليهم وارتكابهم أفعالاً عنصرية". بعبارة أخرى، لا تُختصَر مشكلة العنصرية في سلك الشرطة الفرنسية بعنصرية هذا الشرطي أو ذاك، بل هي نتيجة لبنية مؤسساتية تهيّئ ظروفاً تسمح بوقوع العنصرية وبإدامتها. ويتابع جوبار أنّ "أصل المشكلة يكمن في المؤسسة التي تعطي الشرطي أوامر لينفذها، وفي السياسات التي تحدّد مهامه. ليس الشرطي إلا الخط الأول للاحتكاك بين هذه المؤسسات والسياسات وبين الأشخاص الذين تسعى إلى مراقبتهم والسيطرة عليهم.
من جهته، يربط ألبرت هيرزكوفيتش، وهو عضو في مجموعة "ميموريال 98" الفرنسية التي تتبنى مكافحة العنصرية ومسائل أخرى، ما بين الزخم الذي تعرفه التظاهرات الأخيرة التي تُنظّم في فرنسا، وعنوانها الجامع مناهضة العنصرية والعنف، والوعي المتزايد لدى شرائح الشباب في ما يخصّ قضايا مماثلة.