الصراع العربي - العربي "الإسرائيلي" سابقاً
هناك مقولة شهيرة للرئيس المصري الراحل، أنور السادات، مع انطلاق ما تعرف بعملية السلام مع العدو الإسرائيلي التي بدأت في أعقاب حرب أكتوبر المجيدة 1973، إن تلك الحرب آخر الحروب. وكان يقصد أنها آخر الحروب العربية مع العدو الإسرائيلي، وقوبلت تلك المقولة، وقتها وحتى اليوم، باستهجان كثير، ليس في مصر فقط، ولكن في دول عربية عديدة. وبعد مرور نحو أربعين عاماً عليها، نجد أن حدس السادات أو استشرافه المستقبل صادفه الصواب إلى حد كبير؟ فلم تقع حرب حقيقية بين العدو الإسرائيلي وبين أي دولة عربية من دول الطوق المحيطة بإسرائيل، أو غيرها، على الرغم من شن إسرائيل عدوانها أكثر من مرة على لبنان، وعلى قطاع غزة، بعمليات واسعة، واعتداءات متقطعة على سورية، واجتياحات للضفة الغربية. ولا ترقى كل تلك العمليات إلى مستوى الحروب المتناسقة بين الجيوش التقليدية، لكنها تندرج في إطار ما يُعرف بالحروب من المستوى المنخفض، أي طرف يُعتبر في عداد الدول "هو العدو الإسرائيلي" يشن حرباً عدوانية، بجيش نظامي حديث على طرف في عداد غير الدول (non state actor)، حزب الله في لبنان، حماس وحركات المقاومة في غزة والضفة، لا يمتلك سوى التنظيمات شبه العسكرية التي تتصدى
للعدوان وتقاومه. وأياً كانت قدرات تلك الأجنحة العسكرية لمنظمات المقاومة وبطولاتها وبسالتها، وأياً كانت الخسائر التي كبدتها للعدو، وأياً كانت درجة الصمود والمقاومة للظهير الشعبي للمقاومة، فإن كل تلك العمليات لا ترقى، احترافياً، لمستوى الحروب التقليدية بين الجيوش النظامية التي تخوضها الدول في مسارح العمليات. وعلى أي الأحوال، كانت آخر تلك العمليات العدوانية ما عُرف بحرب الـ 51 يوماً التي استهدفت قطاع غزة صيف 2014.
هذا في ما يتعلق بما اصطلحنا على تسميته الصراع العربي الإسرائيلي، والذي شهد أربع حروب تقليدية بين الجيوش على مسارح العمليات، عام 1948على المسرح الفلسطيني، وثلاث حروب على مسارح سيناء وفلسطين والجولان، أعوام 1956 و1967، ثم حرب أكتوبر 1973، وهذه الوحيدة التي خرج منها الطرف العربي مرفوع الرأس، مقارنة بنتائج الحروب التي سبقتها، وهي، أيضاً، التي قصدها السادات بمقولة "آخر الحروب".
ولكن، ما لم يقله السادات، أو ما لم يستشرفه، أن حرب أكتوبر، وإن وضعت نهاية للحروب التقليدية في إطار الصراع العربي الإسرائيلي، فإن العالم العربي أصبح مقبلاً على صراع جديد، هو (الصراع العربي – العربي)، والذي بدأ مبكراً، ولسخرية القدر، بدأه السادات نفسه بحرب ضد ليبيا استغرقت أربعة أيام (21-24) يوليو/تموز 1977، ثم كانت النقلة النوعية في الصراع العربي - العربي بالغزو العراقي الذى قاده صدام حسين على دولة الكويت، عندما اجتاحها بقواته في 2 أغسطس/آب 1990، واستكمل احتلالها في يومين، وفي 9 أغسطس، أعلن ضم الكويت إلى العراق، واعتبارها المحافظة العراقية رقم 19، واستمر الاحتلال العراقي للكويت سبعة أشهر، حتى تم تحريرها في عملية عاصفة الصحراء، في 26 فبراير/شباط 1991، والتي قادتها الولايات المتحدة الأميركية، في إطار تحالف دولي من 34 دولة، بعد استصدار قرار من مجلس الأمن، وأيضاً قرار من مؤتمر للقمة العربية، برعاية مصرية. ومثلت حرب تحرير الكويت، أيضاً، حلقة من حلقات الصراع العربي- العربي لمشاركة قوات دول عربية رئيسية في تلك الحرب، في مقدمتها المملكة العربية السعودية ومصر وسورية.
وساد العالم العربي، بعد ذلك مناخ من التوتر والتجاذب والانقسام ما بين محاور الممانعة والاعتدال. وظهر دور بارز للاعبين من غير الدول، ومن أبرزهم منظمات وحركات المقاومة في فلسطين وجنوب لبنان، بالإضافة إلى الحركات ذات التوجه الإسلامي الجهادي، خصوصاً تنظيم القاعدة وأذرعه المختلفة، وغيره من التنظيمات، وإن كانت هذه الفترة في أعقاب حرب تحرير الكويت وحتى الغزو الأميركي للعراق في مارس/آذار 2003، لم يشهد فيها الصراع "العربي - العربي" جولات عسكرية مباشرة. ولكن، لعبت القواعد العسكرية للولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا في دول الخليج دوراً رئيسياً في عملية غزو العراق.
أحدث سقوط بغداد المروع في 9 إبريل/نيسان 2003، على الرغم من أنه كان متوقعاً، صدمة عنيفة هزت العالم العربي، وأصابته بالوجوم، وأعادت إلى الذاكرة الصورة المسجلة في كتب التاريخ، عن سقوط بغداد التي كانت عاصمة دولة الخلافة الإسلامية العباسية، عندما اجتاحتها جحافل المغول في 10 فبراير/شباط 1258م، ومقتل الخليفة المستعصم.
انكفأت النظم العربية على نفسها، تبحث عن السبل الكفيلة ببقائها في السلطة، سواء عبر تحالفاتها الخارجية، أو بتطوير سياساتها الداخلية بمزيد من إحكام القبضة الأمنية، مع التلويح بجزرة الإصلاح السياسي والاقتصادي، من دون تفعيل حقيقي لأي سياسات، واقتصار الأمر على الوعود.
بينما تطلعت جماهير عديدة في العالم العربي، خصوصاً الشباب، إلى تغيير حقيقي، وطرحت الولايات المتحدة، عبر وسائلها المتطورة، أفكاراً عديدة حول الديمقراطية والحكم الرشيد، وغير ذلك من القيم التي تتوق الشعوب إلى تطبيقها. وتتابعت التفاعلات في المنطقة العربية، حتى بلغت مداها في يناير/كانون ثاني 2011، وما أعقبه من أحداث الربيع العربي، والتي تركزت في قلب المنطقة العربية، خصوصاً المشرق العربي. وإذا بالصراع "العربي- العربي" ينفجر من جديد، مع التصدعات التي أصابت المجتمعات العربية. ولكن، في سياقات جديدة أخذت، في البداية، شكل صراعات داخلية، ذات طابع طائفي وإثني، وأوضح مثال على ذلك ما جرى ويجري في العراق واليمن، ثم تطورت تلك الصراعات الداخلية بدخول عوامل وأطراف خارجية متعددة، وظهور التنظيمات والحركات الإسلامية المتطرفة التي تتبنى ثقافة العنف والإرهاب، والتي بلغت حد الاستيلاء على مناطق واسعة في العراق وسورية، وإعلان قيام "دولة الخلافة الإسلامية"، وانتشار أذرع تلك التنظيمات، وتحديداً داعش، في دول عديدة، تحت اسم الولايات.. (ولاية طرابلس، ولاية سيناء، ولاية الرقة، ... إلخ). ودعت أميركا إلى تحالف إقليمي ودولي، لمحاربة هذا التنظيم الإرهابي .. واشتعلت المنطقة، لكن المثير في المشهد أن الصراع يدور على أرض عربية، وكل أطرافه عربية، الدول، والتنظيمات على تنوعها. أصبح القتل على الهوية التي يحددها كل طرف للآخر، إرهابياً ومرتداً ورافضة وخوارج، والتصنيفات عديدة، وكل طرف يعتبر نفسه المسلم الحق وواجبه قتل الآخر.
تضرب الدول المنظمات باعتبارها إرهابية، والمنظمات تستهدف الدول باعتبارها دولاً كافرة ومرتدة، ودول تقطعت أوصالها وكل قطعة تحارب الأخرى، وكل منظمة تعتبر الأخرى من الخوارج. وفى نهاية الأمر، وصلنا إلى أن كل العرب يقتلون كل العرب. الحدود مستباحة، ومسارح العمليات تشمل المدن والبلدات والقرى في الريف والحضر. طرف يرفع شعارات الحرب على الإرهاب، والطرف الآخر يرفع شعار الجهاد ضد الكفرة المرتدين، في حرب مجنونة، تدور في إطار الصراع العربي – العربي، بعد أن كان يوماً الصراع العربي الإسرائيلي، والذي يسعى بعضهم إلى جعله الجوار العربي الإسرائيلي!