الصراع على التاريخ

02 يوليو 2019

(Getty)

+ الخط -
يلعب التاريخ دوراً أساسياً في تكويننا، نحن البشر، أفراداً وجماعات، والتعلق بالماضي والحنين إليه إنما هما من مقومات الفرد والجماعة، ما يجعل الحاجة إلى التاريخ ضرورية، فالفرد لا يشعر بكيانه تاماً إلا بماضيه، فالتاريخ يشكل جذور البشر أفراداً وجماعات. يحتاج الأفراد والجماعات إلى التاريخ، ليشعروا بذواتهم وشخصياتهم ومكانتهم في العالم.
يدخل التاريخ حياتنا عبر مجموعة من القنوات، ويفعل فعله في تكويننا. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال السؤال عن فائدة التاريخ يطرح نفسه. توظّف التاريخ سلطاتٌ عديدة تعمل على صياغة التاريخ وفق مصالحها، فالسيد وليس العبد هو من يكتب التاريخ، والمنتصر هو الذي يقوم بذلك، وليس المهزوم. لذلك كل تاريخ لا يظهر إلا بإخفاء تواريخ أخرى، تنافسه في قول كلام آخر في الوقائع التاريخية التي يدوّنها.
تعطينا النظرة إلى ما كتب أو قيل في التاريخ طيفاً هائلاً من الآراء المختلفة بشأن الجدوى من دراسة التاريخ ووظيفته للمجتمعات. مرد ذلك أن التاريخ الذي يسرد ماضي البشرية موجود في الفرد والجماعة. وهناك من يعتبر أنه طالما هناك فرد وجماعة فهناك تاريخ وأحكام في التاريخ تصل إلى حد التناقض في أحيان كثيرة. ومن مفارقات التاريخ أن كثيرين ممن تكلموا عنه، أو كتبوا فيه، ليسوا بالضرورة مؤرخين أو علماء أو فلاسفة.. بل إننا نجد أشتاتا مختلفة من البشر يتكلمون في التاريخ، لأنهم يحبّونه، أي يحبون ماضيهم وأنفسهم.
النظرة الى التاريخ بوصفه دراسة ماضي البشرية منقسمة بين أنصار التاريخ وخصومه. واختلاف وجهات النظر ناشئٌ عن الفائدة التي يرجوها كل طرف من دراسته وتحصيله. والقصد بالفائدة هو الفائدة العملية للتاريخ في حياة البشر في الحاضر.
يرى أنصار التاريخ أن أغلب الناس يظنون أن الحوادث التاريخية التي جرت في الماضي 
يمكن أن تتكرّر وتعيد نفسها أو نظيرها في الحاضر والمستقبل. وأن التاريخ هو نموذج أخلاقي في طيف واسع من القضايا الوطنية والاجتماعية.. وهو يكرس القدوة الحسنة في كل قطاعات المجتمع، يتعلمها المرء ليستفيد منها في حياته اليومية. وهناك من يعتبر التاريخ مستودعاً كبيراً يجد فيه كل إنسان ضالته المنشودة، لأن التاريخ يُعرّفنا بما يجب أن نعرف ونستفيد منه في ما نفعل، كما يحذّرنا التاريخ من مساراتٍ مهلكة، وبمعنى آخر التاريخ يعطينا عبرةً في يومنا وغدنا.
ينظر خصوم التاريخ من زاوية مختلفة، تقول: التاريخ يؤلف خطراً على السلام والتفكير السليم، ويحول دون تفاهم الشعوب. يكتب الشاعر بول فاليري: "التاريخ أخطر العقاقير التي استحضرتها كيمياء العقل، فخواصه معروفة جيداً: إنه يمثل الشعوب، ويولد فيها شتى الأحلام والذكريات الخاطئة، ويغالي في رد فعلها، ويُبقي جروحها القديمة حيّة لا تندمل، ويزعجها في راحتها، ويذهب بها الى هذيان الاضطهاد، كما يجعل الأمم فظّة لا تُحتمل ومتغطرسة متكبرة". ويقوم أحد استخدامات التاريخ على تبرير كل شيء، ويعطي أمثلة على كل شيءٍ يمكن توظيفها في كل الاتجاهات.
بالتأكيد، يؤثر الماضي في الحاضر والمستقبل. ذلك لأن العواطف والمطامع والآمال تثور بذكريات القراءة والمطالعة، أكثر مما تنشأ عن مسلمات الحاضر، وتساهم طبيعة التاريخ في بناء التاريخ نفسه، إذ ليست للماضي قيمة إلا في نظر من يهتم بالمستقبل، وليست للمستقبل صورة واضحة بدونه. ومن مهمات التاريخ أن يساعد على التفكير به. قد نقع في ظروفٍ حرجة تتطلب منا حلاً، وعوضاً من أن نتبيّن هذه الحالة الراهنة، أو نتفهمها جيداً، ونبدع في حلها، نلتفت إلى السوابق التاريخية، ونحاول إيجاد المخرج من الحالة التي وصلنا إليها، وبذلك 
يكون التاريخ يغذّي نفسه بنفسه.
تُطلعنا دراسة التاريخ على نواحي الحياة المختلفة التي يحياها المجتمع، من سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية وفنية وغيرها. وفي كل واحدةٍ من هذه النواحي، نكتسب معارف خاصة، تعطي بمجموعها صورة المجتمع. وإذا قارنا مجتمعات الماضي ببعضها، ثم قارناها بمجتمعات الحاضر، رأينا وجه الاختلاف بين المجتمعات خلال تعاقب العصور. ونستفيد من هذه المقارنة فكرة الكثرة والتنوع. كما أن تحليل المجتمع أو بيان عناصره يفيد في استخلاص الصفات المميزة للمجتمع، ولا شك في أن اكتساب المعارف يجعل الإنسان أهلاً لفهم العلاقات الاجتماعية، فالتاريخ يفسر العلاقات التي تربط البشر وآليات تكوينها.
يعيش المجتمع تحولاتٍ متعاقبة، فالمجتمع مهما بدا ساكناً فهو يعيش تحولات مرئية وغير مرئية، يرصد التاريخ هذه التغيرات والتحولات ونتائجها على المجتمع، وهذه الحوادث قد تكون مفاجئة مثل الثورات والانقلابات، وقد تكون تحولات تدريجية ولكنها عميقة التأثير في المجتمع، كتبدل العادات والأخلاق ونمط العيش. فحوادث تاريخية مثل ظهور الإسلام، أو الفتوحات الإسلامية، أو اكتشاف أميركا، أو الحرب العالمية الأولى أو الثانية، إن كل واحدة من هذه الحوادث أثّرت تأثيراً عظيماً على التحولات الاجتماعية التي أعقبتها، ولا يمكن أن نرصد هذه التحولات من دون وساطة التاريخ. كل هذه التحولات هي التي تصنع النظم الاجتماعية، فالأنظمة، في نهاية المطاف، وضعها بشر، وهذا التراث الذي خلّفه الأموات، ويخضع الأحياء له، قد اعتمد في بنائه على شروط حياة عصرٍ مضى، ولتجاوز هذه الأنظمة وتصحيحها لا بد من معرفة تاريخها.
ليس هناك تاريخ واحد للبشر ومجتمعاتهم، هناك تواريخ متعدّدة، فروايات التاريخ لا تخلو من التعبير عن مصالح واتجاهات من يدونون ذلك التاريخ أو لمصلحة من يدونونها، ولكن الصراع لا يكون في التاريخ فحسب، بل هو صراع على التاريخ ذاته.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.