الصراع في ليبيا .. تشابك النفط بالدم
ربما تكون عبارة السياسي الفرنسي كليمنصو التي أطلقها في بداية القرن العشرين، أن "نقطة النفط تعادل نقطة الدم" الأكثر تعبيراً عن واقع الصراع الإقليمي والدولي الحالي في ليبيا، والذي بات يُعبّر عن نهج وأسلوب عمل تتبعه قوى إقليمية ودولية عديدة، وترسخه في استراتيجياتها تجاه ليبيا، لتحقيق النفوذ والمكانة في هذه الدولة الغنية بمواردها النفطية، والتي تضعها بالمرتبة الأولى أفريقياً من حيث الاحتياطات المؤكّدة، فما تشهده ليبيا حالياً من صراع بين معسكرين محليين، لكل منهما مؤسساته الخاصة، لا يُعتبر مجرّد صراع داخلي على السلطة، وإنّما يعد امتداداً للصراع على النفوذ بين مجموعةٍ من القوى الإقليمية والدولية، تُسارع الخطى من أجل رسم خريطةٍ جديدةٍ للسيطرة على النفط الذي يعد سلعةً استراتيجية مرتبطة بالجغرافيا وتتشابك بالدم، حيث تبرز ورقة النفط هنا باعتبارها إحدى كلمات السر المفتاحية لفهم الصراع الحقيقي الذي يتمثل في التنافس على النفط وعائداته بين طرفين محليين مدعومين من قوى إقليمية ودولية مختلفة.
تحوّل النفط إلى سلعةٍ استراتيجيةٍ مرتبطةٍ بالجغرافيا
بتتبع خط سير المعارك وتحرّكات القوى المحلية الفاعلة على الأرض وتمركزات القوى الإقليمية والدولية المتدخلة في الشأن الليبي وتحالفاتها، تدرك أنّ ما يحرّكها هو البعد النفطي الذي يُشكل البعد الأهم في تحرّكات هذه القوى وتحالفاتها، فخريطة التحالفات الإقليمية والدولية في ليبيا تُرسم بناءً على استثمارات هذه القوى ومصالحها النفطية، فعلى سبيل المثال، لو تناولنا الموقف الأوروبي من الصراع في ليبيا، لوجدناه يعاني من الانقسامات جرّاء وجود حالةٍ من اختلاف المصالح وتعارضها بين دول الاتحاد ذاته، الأمر الذي أضعف هذا الموقف، وجعله هامشياً، فإيطاليا مثلاً تدعم حكومة الوفاق الوطني، بقيادة فائز السراج، بحكم أن استثماراتها التي تقودها شركة ايني الإيطالية، أكبر الشركات النفطية العاملة في ليبيا، تتركز في الغرب الليبي، وتحديداً في طرابلس الواقعة تحت سيطرة حكومة الوفاق الوطني. ولهذا يقترب موقفها من الموقف التركي في دعم حكومة الوفاق الوطني، في حين أن فرنسا على النقيض من ذلك تدعم الجنرال خليفة حفتر ضد حكومة الوفاق الوطني، بحكم أن الاستثمارات الفرنسية التي تقودها شركة "توتال" الفرنسية هي في المناطق التي يسيطر عليها حفتر في الجنوب الليبي وفي مدن الساحل. ولهذا يقترب موقف باريس مع الموقف السعودي والمصري والإماراتي والروسي ضد الموقف التركي. ويمكن تعميم هذا الأمر على جميع القوى المشاركة في الصراع في ليبيا، والتي تمثلها الشركات العاملة في المجال النفطي والغازي، "بريتش بتروليوم" البريطانية و"فينترشال" الألمانية و"غازبروم" و"روزت نفط" الروسيتان و"أو أم" النمساوية و"ريبسول" الإسبانية، وغيرها من الشركات الأميركية والصينية، وحتى التركية والمصرية. ولبلدان هذه الشركات أدوار رئيسية في الصراع الليبي، الأمر الذي زاد من تعقيد الصراع في ليبيا، كانعكاس طبيعي لزيادة عدد اللاعبين الدوليين المؤثرين فيه، رغبةً من كل لاعب بأن يفرض رؤيته التي تحقق مصالحه في ليبيا، عن طريق الفاعل المحلي الذي يدعمه، فهذه القوى تحاول استمرار تدفق النفط الليبي إلى السوق، واستمرار عمل شركاتها في ليبيا، حتى وإن كان استمرار هذا التدفق وهذا العمل على حساب دماء الليبيين، وهذا ما يمكن استخلاصه من مخرجات مؤتمر برلين الذي عقد في مطلع العام الحالي، وشدّد على ضرورة تحييد المنشآت النفطية عن الأعمال القتالية الدائرة بين القوى المحلية المتصارعة، في حين لم يحظَ قرار وقف إطلاق النار بالدعم ذاته.
معركة النفط آخر معركةٍ تريدها القوى الإقليمية والدولية المتصارعة في ليبيا في ظل استمرار القتال بين القوى المحلية
وبالتالي، أصبح الصراع على موارد النفط الليبية أكثر تعقيداً، في ظل المؤشرات السابقة والحشودات على أطراف مدينة سرت، الأمر الذي قد يجعل الصراع على الهلال النفطي في المرحلة المقبلة حاسماً لمستقبل ليبيا، خصوصاً وأن هناك من يحاول رسم "حدود حمراء" بين أقاليم البلاد الثلاثة، الأمر الذي قد ينقل ليبيا إلى موجة جديدة أكثر حدّةً في الصراع، سيكون مسرحها الأساسي مناطق آبار النفط ومدن الساحل المشرفة على التصدير، لتكون بذلك معركة النفط هي آخر معركةٍ تريدها هذه القوى في ليبيا في ظل استمرار القتال بين القوى المحلية، وهو ما يُظهر زيف الادّعاءات التي تسوقها بعض هذه القوى لتدخلها في ليبيا، ودعمها طرفا محليا ضد طرف آخر.
القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في الصراع الليبي تعتبر النفط الجائزة الكبرى التي يغنمها من ينتصر
وعليه، يمكن القول إنّه، وعلى الرغم من أهمية الاعتبارات الجيواستراتيجية ذات الطابع الإقليمي والدولي للصراع الجاري في ليبيا، إلا أن القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في هذا الصراع تعتبر أن النفط هو الجائزة الكبرى التي سيغنم بها من ينتصر، فالنفط يحتل جانباً كبيراً من اهتمامات كل هذه القوى، بحيث أصبح يشكل بعداً أساسياً في استراتيجياتها، في ظل الحقيقة التي تبيّن تحوّل النفط إلى سلعةٍ استراتيجيةٍ مرتبطةٍ بالجغرافيا، وهو ما يجعل منه أحد عناصر الجيواستراتيجيا الدولية، والذي يتشابك بدماء الليبيين الذين سيكونون الخاسر الأكبر في هذا الصراع، إذا لم يتم وضع حد له في أسرع وقت.