الطابوق العراقي والـ Art Deco

09 يونيو 2015
+ الخط -
العراق شهيرٌ بطابوقه. تلك الآجرّات الصغيرة المتساوية تحمل في ذرّاتها المترّاصة، ذاكرةً تمتدّ إلى ألوف السنين. وكيف لا؟ والطابوق هو المستعمل في بلاد الرافدين منذ زمن الآشوريين والسومريين والبابليين وإلى اليوم. الشواهد المعمارية على تميّز أهل تلك البلاد المنكوبة، لا تعدّ ولا تحصى. مع ذلك، فإن العمارة كهندسة وتصميم، لم تجد طريقها إلى الدراسة المنتظمة أي التعليم العالمي إلا في القرن العشرين. ليس هذا شأن العراق وحده، بل هو شأن هذه المهنة النبيلة. ففي السابق وقبل أن يستوي اللقب العلمي "مهندس العمارة"، كان المتداول المعماري.
أمّا في بلاد الرافدين، فكان يسمّى "الأسطى" في النصف الأوّل من القرن العشرين. يحفظ الأسطوات البغداديون الطابوق عن ظهر قلب. ويعرفون كل ثنايا إمكاناته، لذا لم تكن قدرتهم على التكيّف مع أنماط العمارة الحديثة مفاجئة تمامًا. تكيفٌ هو أدنى إلى المزج بين سمات البيئة المحلية وتقاليدها من جهة، وسمات ذاك النمط "المستورد" القادم من أوروبا؛ الآر ديكو Art Deco.
الأسطى العراقي الشاطر الماهر يستعمل ست أدوات فحسب؛ الخيط والمالج والجمجة والشاقول والطاسة ومثلث قائم من الخشب. ومن خلال هذه الأدوات البسيطة أبدع الأسطى أبنية سكنية تنتشر في بغداد ما قبل الخرسانة والإسمنت، وما قبل عودة المهندسين المعماريين العراقيين المميزين حقًا إلى البلاد في منتصف القرن العشرين تقريبًا.
المبنى السكني الجميل في الصورة أعلاه، مثالٌ ممتازٌ على صلابة الهويّة المعمارية العراقية وانفتاحها في آن واحد. ومثالٌ ممتاز على عمل الأسطى العراقي.
منذ النظرة الأولى، يبدو أثر الآر ديكو، في الأقواس غير المألوفة، لكأنّ المنحني منها ممتدّ، فرأسه منبسط ليحتضن شبّاكين متناظرين بينهما باب يفضي إلى شرفة ذات درابزين حديدي. أما القوس الثاني الأدنى إلى الخطوط المستقيمة، فيوحي بصلابة طراز الآر ديكو.
لكن اللعب بقدرة الطابوق على التركيب بين الكتلة والفراغ، يظهر جليًا واضحًا في ذاك الإفريز الذي يزنّر الجزء الأعلى من المبنى، حيث تنجح النجمات المستلهمة من الخطّ العربي، بإضفاء الطابع العربي على الآر ديكو المستورد. تفاصيل أخرى صغيرة، تحمل في طياتها مرونة الطابوق وحذق الأسطى في الاستفادة من كلّ إمكانات هذا العنصر البسيط، ليكتمل المشهد البصري للمبنى الجميل، الذي لن يرتفع إلى أكثر من ثلاثة طوابق، فأهل المكان أدرى بطقسه الحار. وللسبب عينه ابتعد الأسطوات عن تلوين الطابوق، هكذا ينوس اللون وفقًا لإيقاع الضوء والوقت، بين رملي مصفّر وزعفراني فاتح. التفاصيل تحتشد في النهاية لتبدو واجهة المبنى أخت تلك البيوت التقليدية ذات الواجهات الخشبية المزخرفة، أي الشناشيل.

المساهمون