الطبقة العاملة تدخل الجنة
لم يكن المخرج الإيطالي، إيليو بيتري، يتصور أن عنوان فيلمه الذي أخرجه في 1971عن الطبقة العاملة تدخل الجنة سينتظر طوال هذه المدة، لكي تدفع به الواقعية السينمائية من بعد إلى ضفاف العالم العربي.. كيف؟
مرت احتفالات فاتح مايو، في العالم كله، ولاحظنا أن دول العالم العربي وشرق المتوسط الإسلامية، من ضفته إلى ضفاته الأخرى، لم ينعم بخروج العمال إلى الشوارع، وغابت الطبقة العاملة، أو البروليتاريا بلغة العشاق الأيدولوجيين لسيدة الديكتاتورية المشاعية، منذ سكنت البروليتاريا المسلحة هذه الشوارع والحارات والمفازات.
عوضنا آلة الإنتاج، فيودالية كانت أو صناعية جديدة، بآلة الحرب التي تديرها البروليتاريا المسلحة، بمجلس إدارة من الضباط ورب العمل الجنرال التي لا تعرف من التاريخ سوى ما يبقى من الجثث والأسلحة في المتاحف.
بغياب البروليتاريا التي لم تعد تحمل أي مشروع يليق بالترتيب الطبقي الجديد، المبني على الطائفية، تكون المجتمعات العربية، في أغلبها، قد أتمت خروجها من جميع المواسم التي تضعها البشرية منذ وضع الإنسان في قلب الفكر الممارسة، أي بداية القرن التاسع عشر، لكي تحتفل بمكتسباتها، أو معاركها.
من مواسم الانتخابات، إذ لم يعد أحد يختبئ في مخدع التصويت، لكي يمارس الحق الأسمى في التعبير عن قناعاته السياسية، إلا إذا كان من أجل الجنرالات أو المركبات المصالحية المافيوزية، إلى مواسم الطبقة العاملة، لم تعد أي طبقة من الطبقات تخرج إلى الشارع، أو إلى التصويت، منذ احتكرته الدول أو المنظمات القابلة للاشتعال. أما في المواسم الدولية حول القضايا التي تهم العالم، فقد خرجنا من الباب الخلفي كعسكر، أو درك للحدود التي وضعها العالم الجديد حول نفسه.
وبذلك، تكون الطبقة العاملة قد خرجت من التاريخ، ودخلت إلى منطق الجنة، ولم تعد في حاجة إلى أشكال تنظيم تاريخية أو إنسانية، بل عوضت التنظيمات الدعويةُ، أو الجهادية، التنظيمات النقابية، وفي أحسن الحالات التي مرنت المجتمعات فيها نفسها على التنظيمات الحديثة، تحولت النقابة إلى جمعية دعوية، لها أذرع أفضل بكثير من النقابة أو الحزب، شكلين من أرقى أشكال التنظيم الذي اكتشفته الإنسانية الحديثة.
والزعيم النقابي الصاعد من غبار المناجم والشعارات والكتب الملتهبة، توارى ثم سلم فمه إلى السيد الرئيس أو الحاكم العسكري، ليهنئ العمال بعيدهم، إن بقي منهم من يستطع أن يظل واقفاً.
قبل وفاة الطبقة العاملة، كانت الإحصائيات والدراسات الاجتماعية، في أغلب المجتمعات العربية ومجتمعات الشرق المتوسطي، قد أعلنت وفاة الطبقة الوسطى، وحصل ما عجزت عن التنبؤ به أعتى النظريات خيالية، وأصبحنا، في التصنيف الدولي للطبقات شعوبا بلا طبقات. لا لأن المشاعة قد حصلت، أو انتفت كل الصراعات الطبقية السيئة الذكر، أو طيبته، حسب زاوية النظر ، بل لأننا نتحول، شيئاً فشيئاً إلى شعوب لاجئة، تقف على ضفاف الدول الأخرى، ولم يعد الشعب الفلسطيني اللاجئ الوحيد في دول الجوار العربي وفي الشتات، ينحت بأظافر شهدائه وقادته الأفذاذ خارطة العودة، ويضعها على طاولة كل الدول العظمى والصغرى معا، بل تحولنا إلى لاجئين بدون حلم وطني، بل أقصى ما نحلم به أن يجد وزراء الداخلية في الجنوب المتوسطي وقتا لذكرنا، فقط كي نجد خانة نُحْشر فيها بين خانات الطبقات المتعارف عليها عالمياً، في إحدى دول الاستقبال.
لننظر خارج غبار المعارك، ونفرك أعيننا، ونمعن النظر من جديد إلى كل الشعوب التي لم تخرج فيها البروليتاريا إلى صناعة التاريخ، فإما أنها دخلت في غرفة انتظار جنة التنظيمات الجهادية، أو تحولت إلى كتل لاجئة في قوارب الموت المتوسطي. عراقيون وسوريون وليبيون ويمنيون، كلهم تركوا احتفالات شعوبهم الدموية، واستنفروا آخر حلم لهم، ليدخلوا إلى ملحمة الإغريق من أوديسة البحر المتوسط القاتلة قرب لامبيدوزا.
صار كل الندم الذي يعتصرنا أمام منعطفات التاريخ أن نجيب عن سؤال لم تطرحه شعوب أخرى قبلنا: أكُلّما قتلنا طبقة خلقنا شعبا من اللاجئين؟ يا إلهي، أكلما وعدونا بالجنة، أخرجونا من التاريخ؟ إنه السؤال الذي يشترك مع الفيلم بأنه، كما وصفته كتابات نقدية، مشوق، انفجاري، ساخر، شعبي، معقد، استفزازي، وتراجيدي.