دخل مسرعاً نحو والده يقرأ له خبراً عاجلاً: "إن شاء الله يكون هالخبر صحيح". سأله الوالد عمّا يجري، فأجابه، إنّ داعش سينسحب من لبنان قريباً. ابن التسع سنوات لم تعد تعنيه لعب الأطفال أو الخروج إلى باحة المنزل، وتحدّي أولاد الجيران أو حتى اللهو بالألعاب التكنولوجيّة التي جرّت الأولاد إلى عالم لا نعرف نهايته. يحمل اليوم هاتف والده مترقّباً العاجل الذي سيصل ليُطمْئن العائلة.
عند الثامنة مساءً، يتربّع أمام شاشة التلفزيون ويرفع الصوت عالياً، طالباً من الجميع الصمت. يهزّ رأسه بحسب نوع الخبر. يسمع خبراً عن قطع الطرقات من قبل أهالي العسكريين المخطوفين لدى داعش، فيميل برأسه تعبيراً عن الحزن.
ينتقل إلى خبر آخر، ويرفع رأسه إلى السماء داعياً الرب أن يتحقّق ما قيل عن أنّ أزمة الكهرباء ستُحلّ قريباً. وفجأة، يتنهّد قائلاً: "ايه، واضح"، عند سماع أنّ مبادرات وحلحلة بمسألة انتخاب رئيس للجمهوريّة اللبنانيّة. تُقطع الأخبار بفاصل إعلاني، يبدأ هذا الطفل المهموم بالتمتمة: "شو هالوضع يا الله"! ليش هيك عم يصير بلبنان"؟ ثمّ ينظر إلى والده قائلاً: "هيدا داعش بدنا نقتلو".
تعود النشرة الإخباريّة، ومرّة ثانية يطلب من الجميع الصمت. طبعاً، سنصمت. فهذا الطفل السياسي يريد متابعة الحياة السياسيّة في لبنان فقط، لأنّ الأخبار الدوليّة لا تلفت نظره، ولا تعنيه في الوقت الحالي. ربّما في القريب العاجل سيربط الأحداث، ليجد أنّ لبنان يتأثّر بما يجري حوله، ولا نستبعد ذلك.
لكن لحظة، الحرب السوريّة تهمّه، فيعلّق: "لم نعد نعلم من يقتل الأطفال والنساء في سورية. كنت أسمع أنّ هناك فريقَين، فريق مع النظام وآخر ضدّه. لكن اليوم نسمع بعدّة أفرقاء ومن بينهم المجرم داعش.
يسمّي داعش بالمفرد، لم يعلم سامر بعد أنّ الدولة الإسلاميّة في العراق والشام هم مجموعة إرهابيّة وليسوا فرداً. الجميع صامت، وربّما مندهش، أو علّنا تركنا الطابة في ملعبه، لنتابع ما يحمل في جعبته. أكمل حديثه وبدأ يسمّي الزعماء فرداً فرداً، طالباً منهم أن يتّفقوا. الكلّ يصغي إليه، لكن بدأت تدخلات الكبار. أهله يحدّثونه بشكل طبيعي وكأنّه شاب جامعي يستكشف لعبة الوطن.
أمّا أنا، توقّفت عن الإصغاء له، ورحت أفكّر بهذه الطفولة المثْقلة بهموم الحياة السياسيّة، فهجمت مجموعة من الأسئلة إلى صمتي. هل أبتسم لذكاء هذا الطفل أم أحزن على ما وصلت إليه الطفولة وخزّانها البريء؟ هل هذه المشاهد والأحاديث التي سمعتها اليوم، صدرت عن طفل في التاسعة من عمره؟ هل هذا ذنبه أم ذنب بيئته أم أهله أم التكنولوجيا والعولمة التي فرضت نفسها بشكل سلبي على مجتمعنا؟ هل يجب أن يكون ولد في هذا العمر محروماً من الأمل؟ هل يدرك ما معنى الأمل واليأس أساساً؟ ومن علّمه كل تلك العبارات؟ أهله يضحكون له متجاهلين سيئات ما يقوله، جاهلين لهذه الأحداث الحاصلة، إذاً ليسوا هم السبب.
أستيقظ من أسئلتي المقهورة العاتبة بسؤال سامر الصادم: "معقول يرجع يصير في حرب بلبنان"؟ أعدت صياغة السؤال في ذهني، وأدركت أنّ الطفولة في لبنان انقرضت. لا يعلم سامر عن الحرب شيئاً، لكن يكفي أنّه بات يعرف معنى الحزن والقهر وقطع الرؤوس. أصبح مشبّعاً بأسماء شخصيّات الحرب وما ارتكبته.
ينتظر بخوف وقلق أخبار الساعة. أمّا أنا فيبقى قلقي وخوفي من تحليله الصغير الخطير عن إعادة التاريخ لنفسه، فيشهد وجيله على حرب أخرى. هي حرب في داخله قبل أن تصبح على أرض الواقع. لا يخاف بيتر من الحرب: "أصلاً، في عنّا ملجأ، فينا ننزل نقعد فيه، ما بيصيبونا". أمّا أخوه الخائف فيقول: "بكرا مدرسة، بدنا نفوت نّام، قبل ما يجي داعش ليْنا".