07 نوفمبر 2024
الطقس التطهيري السنوي
وصل إليّ البيان الصحفي الصادر عن الدورة السابعة والعشرين للمؤتمر القومي العربي، التي انعقدت في تونس أيام 19-20 أبريل/نيسان 2016. ولأنني لم أعد أعرف ما يجري اليوم في بلدانٍ كثيرة في المشرق والمغرب العربيين، أسرعت إلى قراءة فقراته، مفترضاً أن اجتماع نخبة من الطلائع القومية العربية، وتدارسها مآلات الراهن العربي، سَيُمَكِّنُنِي من المعطيات والمواقف والخيارات التي تُقرِّبُني بصورة أفضل من حقيقة ما يحصل اليوم في ساحاتٍ عربيةٍ كثيرة، ولعلها تذهب أبعد من ذلك، فَتُسَطِّر الإجراءات وتقترح الخطوات التي يمكن أن تساهم في التقليص من أعراض الغمَّة التي تعطل مختلف المجتمعات العربية.
عكفت على قراءة البيان، على الرغم من أنني أعرف من مشاركتي في بعض دورات المؤتمر الأولى، وإلى حدود المؤتمر التاسع في الجزائر، حيث أصبحت أكتفي بمتابعة أغلب ما يصدر من بيانات، أنه لم يتخلَّص من النَّفس العقائدي المغلق، في نمط اقترابه من الأحوال العربية والإقليمية والدولية، فقد استأنس محرّرو بياناته بهندسةٍ نمطيةٍ لبيانهم السنوي، وحَوَّلُوا العمل القومي في المؤتمر إلى آلية لا تتجاوز التذكير النمطي التكراري بمواقف ومعطيات معروفة، ومعروف فقرها ومحدُودية مردوديتها. إنهم لا يجدون أي حرجٍ في مواصلتهم الحديث بلغةٍ ومفرداتٍ، تأكد الجميع من عدم قدرتها على فهم متغيرات الواقع العربي، في أبعاده المتحركة والمعقَّدة.
لا أدري لماذا خطر ببالي أن بيان هذا المؤتمر الذي ينعقد في زمن عربي يتميَّز بمظاهر خرابٍ وتراجعٍ كثيرة، قد يضع يده على مكامن الْخَلَل في كل ما يجري داخل المجتمعات العربية، وخصوصاً في المشرق العربي، حيث تتواصل الحروب الداخلية صَانِعَةً جروحاً عميقة في نسيج مجتمعاتنا، ومُكَسِّرة آمالها في بناء مجتمع عربي منتفض على الفساد والاستبداد، وكل مظاهر البؤس التي تجري، بوتيرةٍ مخيفةٍ في العراق واليمن وسورية، وتترك آثارها على مجتمعات الخليج العربي وبلدان شمال إفريقيا.
يتطلَّع العروبيون، اليوم، إلى تجاوُز المآلات التي تعرفها مجتمعاتهم، وهم لا يجدون أنفسهم في بيانات مؤتمرٍ لا يحدثهم عن إشكالات التحوُّل والتغيير الذي شمل أغلب بلدانهم، وقد هبَّ شبابُها لمناهضة الاستبداد والفساد. إنهم يعون جيداً أن بياناتٍ تعمل على تغييب معطيات التاريخ الفعلية، لِتُصِرَّ على استعادة لغةٍ ومفرداتٍ لا تُحِيل إلى وقائع مُحَدَّدة، قَدْر ما تضعنا أمام ملفوظاتٍ بدون محتوى واضح، أمام شعاراتٍ لا تناسب العمل القومي المنتظر، من أجل مواجهة ما تعرفه منظومة العروبة اليوم من عِلَل.
يُنشئ البيان، كما تعوَّد الذين يُحَرِّرُونَه، جملةً من العناوين الكبرى، إلّا أنها عناوين مُعَدَّة
بتساهلٍ كثير، وبقفزٍ كثير على عِلَلِ الواقع العربي. ويتحدث البيان عن المقاومة والتحرير، ليذكِّر بمواقف حصلت في أزمنة سابقة. إنه لا يتحدث عن مقاومة المجتمعات العربية الأنظمة التي تفرّغ أوطانها وتُهَجِّر شعوبها، كما حصل ويحصل اليوم في سورية والعراق.
لا نجد في البيان أي تشخيصٍ لأحوال المجتمع العربي السوري، كما لا نجد أي إشارة إلى أدوار النظام السوري في تخريب المدن والأرياف، ولا أي إشارةٍ إلى رصد الصعوبات التي واجهتها المعارضة السورية. وبَدَل ذلك، يتحدّث المؤتمر بعيونٍ تدعو إلى "الحفاظ على الدولة ومؤسساتها، وعلى الجيش الضامن لوحدة ومستقبل البلاد"، وكأن سورية بدون مجتمع أو بدون شعب يُعاني من ويلات تسلُّط نظامٍ يستبيح الأرض والمجتمع للقوى الإقليمية والدولية المتربِّصة بالمجتمعات العربية وتطلُّعاتها، إلى بناء نظام سياسي ديمقراطي وعادِل.
أَعْجَبُ لأولئك الذين يتمتعون بكفاءة بناء المخارج المنقذة، على الرغم من تنافُر معطيات الواقع وتشابكها، وأعجب للذين يتيهون في غفلةٍ من أمرهم، من دون أن يَرِفَّ لهم جفن، فلا تصيبهم خشيةٌ من الدمار والخراب الذي يملأ دياراً عديدة في الجغرافيات العربية. كما أنني أَعْجَبُ للذين لا يتردّدون في إصدار الأحكام المغلقة على ما يجري في العراق وسورية واليمن وفلسطين، فيتحدثون عن "المقاومة والتحرير"، وتختلط في أحاديثهم وكتاباتهم الأماني بالأحلام بالوقائع.
إذا كنا نواجه، اليوم، واقعاً عربياً مُنْهَاراً، فإننا نواجه ضمن هذا الواقع الانهيار البارز في لغة البيانات القومية، من قَبِيل البيان الذي نحن بصدده الآن. إنه بيان يرفض الاعتراف بكل ما حصل، ويحرص على أن يسجل موقفاً مُعَاداً بطريقةٍ طقوسيةٍ، لكننا نتساءل هل تستطيع الكلمات المستعادة من لغاتٍ قديمةٍ وعقائد مُحَنَّطَة، معالجة العِلَل والأعطاب التاريخية المزمنة، من قَبِيل ما هو عليه الحال في واقع المجتمعات العربية؟
هل تستطيع البيانات المُعدَّة في صيغة طقس تطهيري سنوي أن تبني البدائل المطلوبة لمظاهر الانحطاط العربي الشامل؟
عكفت على قراءة البيان، على الرغم من أنني أعرف من مشاركتي في بعض دورات المؤتمر الأولى، وإلى حدود المؤتمر التاسع في الجزائر، حيث أصبحت أكتفي بمتابعة أغلب ما يصدر من بيانات، أنه لم يتخلَّص من النَّفس العقائدي المغلق، في نمط اقترابه من الأحوال العربية والإقليمية والدولية، فقد استأنس محرّرو بياناته بهندسةٍ نمطيةٍ لبيانهم السنوي، وحَوَّلُوا العمل القومي في المؤتمر إلى آلية لا تتجاوز التذكير النمطي التكراري بمواقف ومعطيات معروفة، ومعروف فقرها ومحدُودية مردوديتها. إنهم لا يجدون أي حرجٍ في مواصلتهم الحديث بلغةٍ ومفرداتٍ، تأكد الجميع من عدم قدرتها على فهم متغيرات الواقع العربي، في أبعاده المتحركة والمعقَّدة.
لا أدري لماذا خطر ببالي أن بيان هذا المؤتمر الذي ينعقد في زمن عربي يتميَّز بمظاهر خرابٍ وتراجعٍ كثيرة، قد يضع يده على مكامن الْخَلَل في كل ما يجري داخل المجتمعات العربية، وخصوصاً في المشرق العربي، حيث تتواصل الحروب الداخلية صَانِعَةً جروحاً عميقة في نسيج مجتمعاتنا، ومُكَسِّرة آمالها في بناء مجتمع عربي منتفض على الفساد والاستبداد، وكل مظاهر البؤس التي تجري، بوتيرةٍ مخيفةٍ في العراق واليمن وسورية، وتترك آثارها على مجتمعات الخليج العربي وبلدان شمال إفريقيا.
يتطلَّع العروبيون، اليوم، إلى تجاوُز المآلات التي تعرفها مجتمعاتهم، وهم لا يجدون أنفسهم في بيانات مؤتمرٍ لا يحدثهم عن إشكالات التحوُّل والتغيير الذي شمل أغلب بلدانهم، وقد هبَّ شبابُها لمناهضة الاستبداد والفساد. إنهم يعون جيداً أن بياناتٍ تعمل على تغييب معطيات التاريخ الفعلية، لِتُصِرَّ على استعادة لغةٍ ومفرداتٍ لا تُحِيل إلى وقائع مُحَدَّدة، قَدْر ما تضعنا أمام ملفوظاتٍ بدون محتوى واضح، أمام شعاراتٍ لا تناسب العمل القومي المنتظر، من أجل مواجهة ما تعرفه منظومة العروبة اليوم من عِلَل.
يُنشئ البيان، كما تعوَّد الذين يُحَرِّرُونَه، جملةً من العناوين الكبرى، إلّا أنها عناوين مُعَدَّة
لا نجد في البيان أي تشخيصٍ لأحوال المجتمع العربي السوري، كما لا نجد أي إشارة إلى أدوار النظام السوري في تخريب المدن والأرياف، ولا أي إشارةٍ إلى رصد الصعوبات التي واجهتها المعارضة السورية. وبَدَل ذلك، يتحدّث المؤتمر بعيونٍ تدعو إلى "الحفاظ على الدولة ومؤسساتها، وعلى الجيش الضامن لوحدة ومستقبل البلاد"، وكأن سورية بدون مجتمع أو بدون شعب يُعاني من ويلات تسلُّط نظامٍ يستبيح الأرض والمجتمع للقوى الإقليمية والدولية المتربِّصة بالمجتمعات العربية وتطلُّعاتها، إلى بناء نظام سياسي ديمقراطي وعادِل.
أَعْجَبُ لأولئك الذين يتمتعون بكفاءة بناء المخارج المنقذة، على الرغم من تنافُر معطيات الواقع وتشابكها، وأعجب للذين يتيهون في غفلةٍ من أمرهم، من دون أن يَرِفَّ لهم جفن، فلا تصيبهم خشيةٌ من الدمار والخراب الذي يملأ دياراً عديدة في الجغرافيات العربية. كما أنني أَعْجَبُ للذين لا يتردّدون في إصدار الأحكام المغلقة على ما يجري في العراق وسورية واليمن وفلسطين، فيتحدثون عن "المقاومة والتحرير"، وتختلط في أحاديثهم وكتاباتهم الأماني بالأحلام بالوقائع.
إذا كنا نواجه، اليوم، واقعاً عربياً مُنْهَاراً، فإننا نواجه ضمن هذا الواقع الانهيار البارز في لغة البيانات القومية، من قَبِيل البيان الذي نحن بصدده الآن. إنه بيان يرفض الاعتراف بكل ما حصل، ويحرص على أن يسجل موقفاً مُعَاداً بطريقةٍ طقوسيةٍ، لكننا نتساءل هل تستطيع الكلمات المستعادة من لغاتٍ قديمةٍ وعقائد مُحَنَّطَة، معالجة العِلَل والأعطاب التاريخية المزمنة، من قَبِيل ما هو عليه الحال في واقع المجتمعات العربية؟
هل تستطيع البيانات المُعدَّة في صيغة طقس تطهيري سنوي أن تبني البدائل المطلوبة لمظاهر الانحطاط العربي الشامل؟