وضع المفكّر السوري الطيب تيزيني (1934) في سبعينيات القرن الماضي مشروعاً فكرياً خطّط أن يُنجزه في 12 كتاباً بعنوان "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي من بواكيره إلى المرحلة المعاصرة" غير أنه انقطع عنه بعد سنوات، بعد أن صدر منه خمسة أجزاء فقط.
هذا الانقطاع سنجد تفسيراته في المحاضرة الأولى التي ألقاها في تونس العاصمة، وحملت عنوان "علاقة السؤال التراثي بالمشروع الديمقراطي" ضمن سلسلة لقاءات مع الطيب تيزيني ينظّمها "منتدى الجاحظ" في مدن تونسية مختلفة بين 19 و24 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري.
التقطّع الذي عرفه مشروع تيزيني الفكري سنجد نظيره في المحاضرة التي انقطعت من حين إلى آخر بسبب بكاء المفكّر السوري وهو يتحدّث عن سقوط مشاريع جيله والمأساة التي تعيشها بلاده. هذه المأساة كانت منطلق تيزيني في مداخلته حيث يرى بأن "ما يحدث الآن يُعبّر عن تغيّر الرهانات العربية مع تغيّر الحوامل الاجتماعية" معتبراً أن ما يحدث الآن هو "حالة سقوط لكل شيء".
بحسب تيزيني، فإن "البلاد العربية، ومنذ 2003 (سقوط بغداد) تعيش حالة من تصدّع بناء، وفي الأثناء تجري استعادة كل ما أصبح خارج التاريخ". منذ تلك اللحظة، يكشف تيزيني بأنه وعى أنه "لم يعد هناك غدٌ في هذا السياق". هنا، يؤكد بأن هذا لا يعني تشاؤماً بل هو دعوة للبناء من الصفر.
حول الوضع الحالي، يعتبر تيزيني أن الواقع العربي لا يزال محكوماً بما يسميه "قانون الاستبداد الرباعي" المتكوّن من عناصر "الاستبداد بالثروة" و"الاستبداد بالإعلام" (تحديد ما يُقال) و"الحزب المهيمن" و"الاستئثار بالسلطة" وهي نقطة يفصّلها حيث يرى أن "قوامها هو الدولة الأمنية والتي تسعى إلى أن تُفسد من لم يفسد بعد، ليصبح الجميع مُدانين تحت الطلب، وعملية الإفساد هذه هي السبيل نحو حماية المفسد وبالتالي فإن الوقوف عن الإفساد يُسقط كل هذه المنظومة".
هذا الوضع، إضافة إلى تأزّمه المتواصل في السنوات الأخيرة، يرى تيزيني بأنه "تمظهُر لحالة جديدة تُزيل كل ما كتبتُه، فالحامل الاجتماعي الذي كنا نراهن عليه قد ضُرب وهو الطبقة الوسطى المتنوّرة والميسورة".
يعتبر صاحب كتاب "من التراث إلى الثورة" أن "المفكّر ينبغي أن يكون قاسياً مع ما كتبه، فأسئلة الفلسفة عادت إلى التاريخ، وربما إلى ما قبله (ما قبل اللغة والتواصل) باعتبار أن اللغة هي بداية ترتيب الأشياء وعلينا أن نبدأ من هناك مرّة أخرى (نقطة الصفر) ووضْع بنية جديدة من المفاهيم والمصطلحات والمعاني".
يشير تيزيني إلى أن مشروعه القديم كان مرتبطاً بحامل آخر، هو الاتحاد السوفييتي والذي سقط من الداخل قبل السقوط من الخارج. يستند المفكّر السوري على هذه الملاحظة ليقول بأن "فشل الثورة البلشفية (انهيار الاتحاد السوفيتي) هو أحد أسباب تدمير البلاد العربية" معتبراً أن "مفهوم الثورة دُمّر بعد الثورة الروسية"، وأن البلاد العربية من جانبها "لم يحدث فيها أي تراكم كي يتحوّل إلى فعل تاريخي متدفق، وظلّت هشّة من الداخل تنتظر ضربات الخارج".
يطرح تيزيني، في نهاية كلمته، على الحضور سؤالاً استنكارياً "ماذا بقي من فكر المُصلحين في عصر النهضة العربية (القرن التاسع عشر) وتونس أحد البلاد التي عاشت حركة إصلاحية نشيطة؟"، ليختم بالقول "البدء من الصفر.. وإذا لم تفعلوا أنتم لا يأتيكم شيء.. ابدؤوا بفتح الدائرة".