10 ابريل 2019
العالقون في الصراع
ربما لم يكن فرانسيس فوكوياما، ولا صمويل هنتنغتون، على سعة كافية من الخيال والتنبؤات، بحيث تمكّنهما من استبدال "صدام الحضارات" بتعبير أكثر دقّة، وهو الصدام داخل الحضارة الواحدة. لعلّ مفكرين آخرين، مثل محمود ممداني وأمارتيا سن، وكلاهما أكاديميان أميركيان هنديا الأصل، هما من أبرز من تصدّيا لهذه الفكرة.
وفكرة صدام الحضارات نابعة، في الأصل، من مقالة نشرها المستشرق البريطاني، برنارد لويس، بعنوان "جذور الغضب الإسلامي" في عام 1990. طوّر المقالة فيما بعد إلى كتاب تجلجلت سطوره بصليل الصدام بين الإسلام والغرب، والتأكيد على تشخيص كياني الغرب والإسلام، في تضادهما وعدائيتهما، فهو لا يرى العلاقة بين الإسلام والغرب أو المسيحية إلا بمنظار الصراع الدائم، والمنافسة البغيضة، والحقد المكتوم.
كشف محمود ممداني، وهو أستاذ ضليع في قسم الأنثروبولوجيا والشؤون الدولية ومدير معهد الدراسات الأفريقية في جامعة كولومبيا الأميركية، في كتابه "المسلمون الأخيار والمسلمون الأشرار: أميركا والحرب الباردة وجذور الإرهاب"، أنّ كتاب هنتنغتون "صدام الحضارات... إعادة صنع النظام العالمي" صار، فترة طويلة، إنجيل مفكري الغرب من المحافظين. ومن فرط اتخاذه منهجاً، أصبح الاستدلال به كبيراً، كلما استشعر الغرب دنو خطر ما، فيوجهونه للعالم الإسلامي وللإسلام، باعتباره الخصم المتبقي، بعد نهاية الحرب الباردة وتحطم الأسطورة الشيوعية، وتحول العالم إلى قطبية واحدة.
لم يضع العالم الإسلامي نفسه في هذه المواجهة مباشرة، لكن المتغيرات في الحضارة الغربية هي التي كشفت من على وجهه الكثير. كما غذّت هذه التغيرات أفكاراً تنم عن مشاعر سلبية في العالم الإسلامي تجاه الغرب، نتيجة مشكلاتٍ ونزاعاتٍ كثيرة جرّها الغرب إلى أرضه، دفاعاً عن مصالحه الاقتصادية، وبحثاً عن موارد الطاقة والممرات الإستراتيجية المتمثلة في القنوات الرئيسية التي تربط أعرق ثلاث قارات في العالم.
قبل رحيل صمويل هنتنغتون أواخر العام 2008، وكان صراع الحضارات على أشده، قام بتعديل بعض أجزاء نبوءته التي باتت، إلى حين، المفسّر للصراعات العنيفة، بسبب الخلافات الثقافية والدينية بين الحضارات الكبرى. ومن فرضيات النظرية التي قام بدحضها ممداني، قبل أن تتحول إلى حتميات، هي "الدين أهم العوامل التي تميّز بين الحضارات، وهو العامل الأهم في صراعات المستقبل، المجتمعات الإسلامية لا تحدّد هويتها إلّا بالإسلام الأصولي، ورفض العلمانية الغربية هو أكبر الحقائق الاجتماعية في بلاد المسلمين طوال القرن العشرين".
أما أمارتيا سن، الحائز على جائزة نوبل عام 1998في العلوم الاقتصادية لعمله في اقتصاد الرفاه، فقد شهد، في طفولته الباكرة، صراعاً بين المسلمين والهندوس في بلدته، راح ضحيته كثيرون، لكن العامل المسلم الذي انتهى به المطاف في حديقة أسرة أمارتيا، ثم مات قبل أن يوصله والد أمارتيا إلى المستشفى، ترك ندوباً في مشاعر الطفل الصغير، وكانت هذه الحادثة حافزه لتحليل مشاعر العنف المنضوي تحت الاعتقادات المختلفة.
وفي تحليلاته التي أدرجها في كتابه "الهوية والعنف: وهم المصير الحتمي"، تحدث سن عن
"عنف الوهم"، حيث إنّ الطائفية قد تكون مجرد شيء خامد قروناً، ثم يسعّرها الطائفيون، ويوقظون فتنةً لا يعرف أحد كيف يخمدها، وتحدّث عن الانتماءات الدينية والتاريخ الإسلامي، وأسهب فيه عن تاريخ المسلمين المتسامح، وإسهاماتهم الحضارية والعلمية، مؤكداً أنّ الخطر يحدث، حينما نتبنى النظرة عن هوية الطرف الآخر، من خلال تعريف ذاتنا لهم، فمثلاً لم يكن اليهود، بطبيعة الحال، الموجودين في كتب النازيين ولا منشوراتهم. وبالطبع، لم يكن المسلمين الهنود أولئك الموجودين في منشورات الهندوس، وليس العكس. ومن الغباء أن تختزل الإنسان في هوية واحدة، ومن الغباء الأكثر أن تصدق أنّ هوية الشخص الآخر هي ما يتم ترويجه لدى خصومه.
بدأت المقاربة لدى المفكريْن من التصنيف الوحيد الفريد، القائم بالفعل منذ زمن طويل، وقبل إثارة هذه القضية الخاصة بوجود، أو عدم وجود، صدام. وما أثبتاه هو أنّ أطروحة وجود صراع حضاري هي، مفهومياً، فرضية متطفلة على القوى المسيطرة لتصنيف وحيد فريد قائم على ما يُسمى الخطوط الحضارية، أو الفروق الحضارية أو الثقافية، والتي تتبع التقسيمات الدينية التي يُوجّه الانتباه إليها وحدها. يضع هنتنغتون الحضارة العربية في مقابل الحضارات، الإسلامية والهندوسية والبوذية ..إلخ، فالمواجهات المزعومة للخلافات الدينية أُدمجت في رؤيةٍ تم اصطناعها بشكلٍ حاد على صورة تقسيم فاصل واحد مهيمن، ولا مرونة فيه.
ويرى سن أنّ هناك مشكلتين منفصلتين لنظرية الصراع الحضاري، الأولى: وهي التي قد تكون جوهرية أكثر، تتعلق بأهمية تصنيف الناس، وفقاً للحضارات المزعوم انتماؤهم إليها، وقابلية هذا التصنيف للبقاء. وتظهر هذه القضية قبل ظهور معضلات النظرة التي تعتبر أنّ الناس الموضوعين بهذه الطريقة داخل صناديق حضارية لا بد، بشكلٍ ما، أن يكونوا خصوماً، والحضارات التي ينتمون إليها معادية بعضها لبعض.
تكمن المشكلة الثانية وراء نظرية الصراع الحضاري، وتعبّر بتعميمٍ كبير عن إمكان رؤية الناس، بشكلٍ أساسي، بصفتهم ينتمون إلى حضارة واحدة أو أخرى. ويمكن رؤية العلاقات بين أفراد مختلفين في العالم، في هذه النظرية الاختزالية، علاقات بين الحضارات المعنية المزعوم انتماؤهم إليها.
في خضم هذا العصف الفكري الدفاعي الذي يرنو، في نهاية المطاف، إلى التمييز، يبدو أنّ الترياق الأكثر مرارة هو المتاح حالياً. وفي مواجهة أزمة الصدام الحضاري بين الطوائف الإسلامية المختلفة من عنفٍ وعنفٍ مضاد، حقيقة هي أشدّ وجعاً من نبوءة "صدام الحضارات".
وفكرة صدام الحضارات نابعة، في الأصل، من مقالة نشرها المستشرق البريطاني، برنارد لويس، بعنوان "جذور الغضب الإسلامي" في عام 1990. طوّر المقالة فيما بعد إلى كتاب تجلجلت سطوره بصليل الصدام بين الإسلام والغرب، والتأكيد على تشخيص كياني الغرب والإسلام، في تضادهما وعدائيتهما، فهو لا يرى العلاقة بين الإسلام والغرب أو المسيحية إلا بمنظار الصراع الدائم، والمنافسة البغيضة، والحقد المكتوم.
كشف محمود ممداني، وهو أستاذ ضليع في قسم الأنثروبولوجيا والشؤون الدولية ومدير معهد الدراسات الأفريقية في جامعة كولومبيا الأميركية، في كتابه "المسلمون الأخيار والمسلمون الأشرار: أميركا والحرب الباردة وجذور الإرهاب"، أنّ كتاب هنتنغتون "صدام الحضارات... إعادة صنع النظام العالمي" صار، فترة طويلة، إنجيل مفكري الغرب من المحافظين. ومن فرط اتخاذه منهجاً، أصبح الاستدلال به كبيراً، كلما استشعر الغرب دنو خطر ما، فيوجهونه للعالم الإسلامي وللإسلام، باعتباره الخصم المتبقي، بعد نهاية الحرب الباردة وتحطم الأسطورة الشيوعية، وتحول العالم إلى قطبية واحدة.
لم يضع العالم الإسلامي نفسه في هذه المواجهة مباشرة، لكن المتغيرات في الحضارة الغربية هي التي كشفت من على وجهه الكثير. كما غذّت هذه التغيرات أفكاراً تنم عن مشاعر سلبية في العالم الإسلامي تجاه الغرب، نتيجة مشكلاتٍ ونزاعاتٍ كثيرة جرّها الغرب إلى أرضه، دفاعاً عن مصالحه الاقتصادية، وبحثاً عن موارد الطاقة والممرات الإستراتيجية المتمثلة في القنوات الرئيسية التي تربط أعرق ثلاث قارات في العالم.
قبل رحيل صمويل هنتنغتون أواخر العام 2008، وكان صراع الحضارات على أشده، قام بتعديل بعض أجزاء نبوءته التي باتت، إلى حين، المفسّر للصراعات العنيفة، بسبب الخلافات الثقافية والدينية بين الحضارات الكبرى. ومن فرضيات النظرية التي قام بدحضها ممداني، قبل أن تتحول إلى حتميات، هي "الدين أهم العوامل التي تميّز بين الحضارات، وهو العامل الأهم في صراعات المستقبل، المجتمعات الإسلامية لا تحدّد هويتها إلّا بالإسلام الأصولي، ورفض العلمانية الغربية هو أكبر الحقائق الاجتماعية في بلاد المسلمين طوال القرن العشرين".
أما أمارتيا سن، الحائز على جائزة نوبل عام 1998في العلوم الاقتصادية لعمله في اقتصاد الرفاه، فقد شهد، في طفولته الباكرة، صراعاً بين المسلمين والهندوس في بلدته، راح ضحيته كثيرون، لكن العامل المسلم الذي انتهى به المطاف في حديقة أسرة أمارتيا، ثم مات قبل أن يوصله والد أمارتيا إلى المستشفى، ترك ندوباً في مشاعر الطفل الصغير، وكانت هذه الحادثة حافزه لتحليل مشاعر العنف المنضوي تحت الاعتقادات المختلفة.
وفي تحليلاته التي أدرجها في كتابه "الهوية والعنف: وهم المصير الحتمي"، تحدث سن عن
بدأت المقاربة لدى المفكريْن من التصنيف الوحيد الفريد، القائم بالفعل منذ زمن طويل، وقبل إثارة هذه القضية الخاصة بوجود، أو عدم وجود، صدام. وما أثبتاه هو أنّ أطروحة وجود صراع حضاري هي، مفهومياً، فرضية متطفلة على القوى المسيطرة لتصنيف وحيد فريد قائم على ما يُسمى الخطوط الحضارية، أو الفروق الحضارية أو الثقافية، والتي تتبع التقسيمات الدينية التي يُوجّه الانتباه إليها وحدها. يضع هنتنغتون الحضارة العربية في مقابل الحضارات، الإسلامية والهندوسية والبوذية ..إلخ، فالمواجهات المزعومة للخلافات الدينية أُدمجت في رؤيةٍ تم اصطناعها بشكلٍ حاد على صورة تقسيم فاصل واحد مهيمن، ولا مرونة فيه.
ويرى سن أنّ هناك مشكلتين منفصلتين لنظرية الصراع الحضاري، الأولى: وهي التي قد تكون جوهرية أكثر، تتعلق بأهمية تصنيف الناس، وفقاً للحضارات المزعوم انتماؤهم إليها، وقابلية هذا التصنيف للبقاء. وتظهر هذه القضية قبل ظهور معضلات النظرة التي تعتبر أنّ الناس الموضوعين بهذه الطريقة داخل صناديق حضارية لا بد، بشكلٍ ما، أن يكونوا خصوماً، والحضارات التي ينتمون إليها معادية بعضها لبعض.
تكمن المشكلة الثانية وراء نظرية الصراع الحضاري، وتعبّر بتعميمٍ كبير عن إمكان رؤية الناس، بشكلٍ أساسي، بصفتهم ينتمون إلى حضارة واحدة أو أخرى. ويمكن رؤية العلاقات بين أفراد مختلفين في العالم، في هذه النظرية الاختزالية، علاقات بين الحضارات المعنية المزعوم انتماؤهم إليها.
في خضم هذا العصف الفكري الدفاعي الذي يرنو، في نهاية المطاف، إلى التمييز، يبدو أنّ الترياق الأكثر مرارة هو المتاح حالياً. وفي مواجهة أزمة الصدام الحضاري بين الطوائف الإسلامية المختلفة من عنفٍ وعنفٍ مضاد، حقيقة هي أشدّ وجعاً من نبوءة "صدام الحضارات".