07 نوفمبر 2024
العالم بالمقلوب
وكأن هذا الرجل، إدواردو جاليانو، يمشي في شوارعنا الضيقة، وعلى كتفيه الخوف نفسه من العسكر، بعدما ذهبوا بمليارات شعوبهم إلى بنوك غامضة، حينما يقول: "يبيع رؤساء الدول أرصدة وبقايا بلادهم بسعر التصفية في نهاية الموسم، كما يبيع لصوص المناطق العشوائية في المدن غنائم سرقاتهم بسعر بخس"، أو وهو يقول: "ينفذ القتلة المأجورون الذين يتم كراؤهم للقتل بالقطاعي المهمة نفسها التي ينجزها الجنرالات المكرمون بالأوسمة والنياشين عن جرائم ترتفع إلى مصافّ الأمجاد العسكرية".
هل يوحّد تشابه الآلام الرؤية إلى هذا الحد لدى الكتّاب المنحازين بحق إلى آلام شعوبهم، فما بالك بمن برّر القتل وحرق الأجساد الحية وكنسها بجرافات الجيش إلى متاهات الصحراء، بل ورقص بعد شيبة الثمانين بالجلباب على "تسلم الأيادي" في قلب الاستوديو، بعدما حزّم خاصرته بالشال الأبيض؟ هل كان هؤلاء الكتّاب حقاً مع آلام شعوبهم، كإدواردو جاليانو، أم كانوا مع شعوب أخرى، غير التي نراها أمامنا؟
تعيش كتابات إدواردو جاليانو طويلاً في ضمائر الحالمين والطيبين واللطفاء وأصحاب الأذواق المتمسكين بالحق، حتى وإن كان ضعيفاً وواهناً وليس برّاقاً، ويرون العالم الشائه، حتى وإن كان جميلاً كمسخ مقلوب. أما الفريق الثاني، فريق بخور السلطة، أي سلطة، فريق إطلاق البخور للأقوى والمنقضّ بقوة وشكيمة السلاح، فريق زمرة السلطان المتباهي بالعنف وقوة الطلقات والذبح وجنازير العسكر، فريق بخور الزار، أي زار تهيمن عليه البندقية والمنافع والديوك المذبوحة من المساكين، كقرابين للنصر والأوسمة، تفيدهم في ديباجة القصائد والألحان ومديح سلطة الدولة، وعدّتها بكامل ذخائرها القومية وعتادها العقائدي النائم في بطون الكتب، من دون أن يترجَم ذلك على أرض الواقع إلى كرامة حقيقية مضافة للمواطن البسيط المحاصر بالزبالة وغلاء الأسعار ومياه الشرب الملوثة، فهؤلاء الكتّاب، ومن على شاكلتهم من نخب، هم بالضبط أجراء الكلام لكل ملك عضود، منذ خلق الله الأرض إلى أن يرثها.
كانت القبيلة العربية قديماً تحتفل بميلاد الشاعر، لأنه فخرها، حينما يضطرب أمامها المعنى، معنى السخاء أو المجد الحقيقي. لماذا هرب الكتّاب إلى نعيم البيادة، وتركوا شعوبهم على ناصية القسوة؟
هل مصادفة أن يقول جاليانو إن العالم بات مقلوباً، هل مصادفة أن يقول: "يسافر الأطفال الأغنياء، مثل المال، بسيارات مصفحة، لا يعرفون مدينتهم سوى بمجرد النظر. يكتشفون مترو الأنفاق في باريس أو نيويورك، لكنهم لا يستخدمونه مطلقاً في سان باولو أو في العاصمة المكسيكية"، أو وهو يقول: "لا يوجد مكان آخر في العالم تصل الفجوة إلى هذا الحد من الضخامة بين القلة التي تستحوذ على الحق في الحكم والكثرة التي يقع عليها واجب الطاعة".
هل الرجل، إدواردو جاليانو، يرانا إلى هذا الحد من مكانه البعيد؟ أما حينما نصل إلى ما قبل نهاية كلام إدواردو عن الملاعب في كرة القدم، فينتابك ألمٌ ما من قوله: "يوجد مكان واحد في العالم، حيث يمكن للشمال والجنوب أن يتواجها في ظروف متساوية في ملعب كرة القدم في البرازيل"، حتى هذا المكان الواحد، عندنا، أصبح مليئاً على يد بطش العسكر بالدم والقتل في استادين، هما استاد (بورسعيد) وملعب (الدفاع الجوي)، ولو رأى إدواردو جاليانو ما حدث في المذبحتين، لراجع نفسه في حكاية المساواة تلك. وفي النهاية، الدولة ببساطة كما يقول: "دولة قاض ودركي"، "الدولة تحمي الأمن العام، أما الخدمات الأخرى، فالسوق كفيلة بها، أما الفقر والفقراء والمناطق الفقيرة فيتولاها الله، إذا لم توفّق الشرطة".
تعيش كتابات إدواردو جاليانو طويلاً في ضمائر الحالمين والطيبين واللطفاء وأصحاب الأذواق المتمسكين بالحق، حتى وإن كان ضعيفاً وواهناً وليس برّاقاً، ويرون العالم الشائه، حتى وإن كان جميلاً كمسخ مقلوب. أما الفريق الثاني، فريق بخور السلطة، أي سلطة، فريق إطلاق البخور للأقوى والمنقضّ بقوة وشكيمة السلاح، فريق زمرة السلطان المتباهي بالعنف وقوة الطلقات والذبح وجنازير العسكر، فريق بخور الزار، أي زار تهيمن عليه البندقية والمنافع والديوك المذبوحة من المساكين، كقرابين للنصر والأوسمة، تفيدهم في ديباجة القصائد والألحان ومديح سلطة الدولة، وعدّتها بكامل ذخائرها القومية وعتادها العقائدي النائم في بطون الكتب، من دون أن يترجَم ذلك على أرض الواقع إلى كرامة حقيقية مضافة للمواطن البسيط المحاصر بالزبالة وغلاء الأسعار ومياه الشرب الملوثة، فهؤلاء الكتّاب، ومن على شاكلتهم من نخب، هم بالضبط أجراء الكلام لكل ملك عضود، منذ خلق الله الأرض إلى أن يرثها.
كانت القبيلة العربية قديماً تحتفل بميلاد الشاعر، لأنه فخرها، حينما يضطرب أمامها المعنى، معنى السخاء أو المجد الحقيقي. لماذا هرب الكتّاب إلى نعيم البيادة، وتركوا شعوبهم على ناصية القسوة؟
هل مصادفة أن يقول جاليانو إن العالم بات مقلوباً، هل مصادفة أن يقول: "يسافر الأطفال الأغنياء، مثل المال، بسيارات مصفحة، لا يعرفون مدينتهم سوى بمجرد النظر. يكتشفون مترو الأنفاق في باريس أو نيويورك، لكنهم لا يستخدمونه مطلقاً في سان باولو أو في العاصمة المكسيكية"، أو وهو يقول: "لا يوجد مكان آخر في العالم تصل الفجوة إلى هذا الحد من الضخامة بين القلة التي تستحوذ على الحق في الحكم والكثرة التي يقع عليها واجب الطاعة".
هل الرجل، إدواردو جاليانو، يرانا إلى هذا الحد من مكانه البعيد؟ أما حينما نصل إلى ما قبل نهاية كلام إدواردو عن الملاعب في كرة القدم، فينتابك ألمٌ ما من قوله: "يوجد مكان واحد في العالم، حيث يمكن للشمال والجنوب أن يتواجها في ظروف متساوية في ملعب كرة القدم في البرازيل"، حتى هذا المكان الواحد، عندنا، أصبح مليئاً على يد بطش العسكر بالدم والقتل في استادين، هما استاد (بورسعيد) وملعب (الدفاع الجوي)، ولو رأى إدواردو جاليانو ما حدث في المذبحتين، لراجع نفسه في حكاية المساواة تلك. وفي النهاية، الدولة ببساطة كما يقول: "دولة قاض ودركي"، "الدولة تحمي الأمن العام، أما الخدمات الأخرى، فالسوق كفيلة بها، أما الفقر والفقراء والمناطق الفقيرة فيتولاها الله، إذا لم توفّق الشرطة".