09 نوفمبر 2024
العراق.. تحجيم الحشد أم تعظيم دوره؟
أصدر رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي "أمراً ديوانيا" يوم 26 يوليو/ تموز الجاري، بخصوص "الحشد الشعبي". وليس الأمر الديواني هذا جديداً، إذ سبق أن صدر يوم 24 فبراير/ شباط الماضي، وتنص فقرته الأولى على: يكون الحشد تشكيلاً عسكرياً مستقلاً، وجزءاً من القوات المسلحة العراقية، ويرتبط بالقائد العام للقوات المسلحة. ويذكر، هنا، أن الحشد الشعبي يضم على الخصوص المليشيات الشيعية: منظمة بدر، وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله في العراق، وقد تشكل، بعد استيلاء داعش على الموصل في يونيو/ حزيران 2014، نتيجة دعوةٍ من المرجع آية الله السيستاني، من دون أن تنصّ دعوة المرجع على تشكيل الحشد، بمثل ما تمّ به تشكيله إطاراً يجمع المليشيات، ويتسم بصبغة طائفية، ويرتبط قادته بطهران.
تم تفويت خمسة أشهر على صدور الأمر الديواني، قبل تفعيله، وقد شهدت الفترة هذه معركة الفلوجة، وإخراج "داعش" منها، لكن "داعش" لم يخرج وحده، فقد خرج الآلاف من أبناء المدينة، وانضموا إلى جموع النازحين في وطنهم.
ليست الأطراف الممثلة بالمكون السنّي النيابي، وهيئة علماء المسلمين وحدها من يعترض على تشكيل "الحشد" وسلوكياته، فقيادات الجيش العراقي كانت في طليعة المعترضين والمحتجين، غير أن هذه الاعتراضات لا تلقى أذناً صاغية، لأسبابٍ منها سطوة الأمر الواقع، ولكون الحشد لا يخضع لأي جهازٍ رسمي عراقي، على الرغم من أنه يتمتع بمزايا الانتساب للدولة، ثم لظروف محاربة تنظيم داعش الإرهابي، علاوة على أن هناك تأييداً واسعاً في صفوف الطائفة الشيعية للحشد.
يأتي القرار الجديد للعبادي محاولة لتحقيق توازنٍ في مطالب متعارضة في الداخل، كما في الخارج، فليس سراً أن الولايات المتحدة دعت، غير مرة، لحلّ الحشد، لكن إيران تتمسك به تمسكاً مطلقاً. وقبل أسابيع، كان قاسم سليماني يتحدّث عن استعداده لتحويل الحشد إلى حرس ثوري، على غرار الحرس الثوري الإيراني الذي يمسك بمفاصل الدولة الإيرانية، ويرتبط حصراً بولي الفقيه، من دون أي مستوى آخر من المستويات العليا في الحكم، ويعتبر "دولة عميقة" داخل الدولة الرسمية.
أظهرت محاولة التوازن هذه قدراً كبيراً من التناقض في القرار الذي يجعل من الحشد تشكيلاً
عسكرياً مستقلاً، وفي الوقت نفسه، جزءاً من القوات المسلحة. ولعل هذا التناقض على غرابته مقصود، من أجل توفير هامشٍ للحركة، ولتأويل الأمور لدى سائر الأطراف المعنية، سواء كان الحشد نفسه أو قيادات الجيش العراقي التي سبق أن تحدّثت عن محاولاتٍ مستمرةٍ لقادة مليشيات الحشد الشعبي، "في التقليل من أهمية القوات النظامية وهيبتها وإسقاطها إعلامياً وشعبياً"، أو لدى الأوساط الاجتماعية السنية والشيعية على السواء، أو لدى الأطراف الخارجية.
يسترعي الانتباه أن قرار العبادي لم يعلن حل الحشد وضم منسوبيه إلى الجيش، إذ حافظ القرار على كيان الحشد الشعبي، وألحقه بالقائد العام للقوات المسلحة، والعبادي نفسه هو من يتولّى هذا المنصب،.بما يعكس من جهةٍ صراعاً على النفوذ، وتحجيماً لنفوذ زعماء المليشيات، كما يعكس، من جهة ثانية، إرادة سياسية بالحفاظ على هذا الكيان شبه العسكري، وإرضاء من يتعلقون به.
يشمل القرار بنوداً أخرى ذات أهمية، ومنها البند السادس الذي يقضي بفك ارتباط منسوبي الحشد عن الأطر السياسية والحزبية، ويمنع العمل السياسي في صفوفه. ولا شكّ في أهمية هذا البند في هذه الظروف، غير أنه قابل للتأويل أيضاً، ففي وسع زعماء المليشيات القول إنهم، مع منسوبيهم، ليسوا جهةً سياسية أو حزبية، بل مجرد تجمع شعبي وطني.
لدى تشكيل الحشد الشعبي، عقب استيلاء "داعش" على الموصل، لم يتم حل المليشيات وفتح الباب أمام الجميع للانضواء في الحشد، فما جرى هو على العكس تماماً، فقد تم اهتبال فرصة تشكيل الحشد، من أجل تقنين وجود المليشيات وتكريسها، مع تحميل الدولة مسؤولية نفقاتها ورواتب منسوبيها. والآن، سوف يُصار إلى تكريس وجود الحشد مرة أخرى، وحتى احتفاظه بمسماه، مع فارق وحيد، هو اعتباره جزءاً من القوات المسلحة. والفيصل هو في ما سيجري على أرض الواقع، إذ يمكن أن يكون هناك ارتباط إداري ومالي مع الجيش، لكن سلطة القرار القيادي تبقى مستقلةً ما دام الحشد "تشكيلاً عسكرياً مستقلا". ولهذا، لم يبد الحشد أي اعتراضٍ على أمر العبادي الديواني، فقد قال الناطق باسم الحشد، أحمد الأسدي، تعقيباً على الأمر "إنه لم يتناول صلاحيات قائد القوات أو نائبه".
أما البند الثاني فيتحدّث عن أن الحشد سوف يضاهي جهاز مكافحة الإرهاب الحالي من حيث التنظيم والارتباط. ويجري تفسير هذا البند من الحشد على أنه سيوفر فرصة التدريب والتجهيز للحشد من جهاز مكافحة الإرهاب، علماً أن هذا الجهاز الذي يضم قواتٍ خاصةً يحظى باعتبار كبير، وهذا "الاعتبار الكبير" سوف يتم إسباغه على الحشد أيضا، ما دام الأمر الديواني جعل الحشد يضاهي الجهاز.
ما هو أكثر أهمية من هذا الأمر وغيره، هو الأفق السياسي للدولة وأجهزتها، بما فيها رئاسة الحكومة التي تحوز الجزء الأعظم من الولاية السياسية. وما زال هذا الأفق قائماً على منطق التغليب الطائفي، بدل أن تكون الدولة وطنيةً جامعةً، فمليشيات بعينها يجري احتسابها وطنيةً وشعبيةً، فيما يحظر على المكون الآخر تشكيل قوة مسلحة، إذ يُحال بين السنّة وتشكيل حرسٍ وطني، باعتبار أن الدولة تقوم بالواجب. ولكن، حين يتعلق الأمر بمكوّنٍ بعينه، فإنه يمنح استثناءاتٍ بلا حدود، علماً أن الأصل في الأشياء هو حل المليشيات ودعوة منسوبيها إلى الانضمام إلى الجيش، وليس السماح لهذا الطرف أو ذاك بإنشائها.
نوري المالكي رئيس الحكومة السابق، وهو أحد أبرز الآباء "الروحيين" للمليشيات الطائفية، سبق أن أعلن، في يونيو/ حزيران 2015، على هامش مؤتمرٍ في الذكرى الأولى لفتوى المرجع الجهادية، رفضه دعوات بناء الجيش العراقي، ودعا، في المقابل، إلى "ضرورة دعم الحشد الشعبي وتقويته". وسبق أن اعتبر العبادي، غير مرة، أن الانتهاكات الواسعة والمتكرّرة (بما فيها تدمير مساجد) التي يُقدم عليها الحشد "أخطاء فردية". من دون أن يخضع المرتكبون لأية مساءلةٍ أو محاسبة. والآن، مع احتساب الحشد جزءاً من القوات المسلحة، فإن أي نقد له ولأدبياته وممارساته، سيكون في حكم المحظور، لكون أفراده جزءاً من الجيش. وعليه، فلعل رئيس الوزراء الأسبق، إياد علاوي، لم يقع في المبالغة، حين صرح، قبل أيام، إنه "لا دولة في العراق، وإيران هي التي تختار رئيس الوزراء".
تم تفويت خمسة أشهر على صدور الأمر الديواني، قبل تفعيله، وقد شهدت الفترة هذه معركة الفلوجة، وإخراج "داعش" منها، لكن "داعش" لم يخرج وحده، فقد خرج الآلاف من أبناء المدينة، وانضموا إلى جموع النازحين في وطنهم.
ليست الأطراف الممثلة بالمكون السنّي النيابي، وهيئة علماء المسلمين وحدها من يعترض على تشكيل "الحشد" وسلوكياته، فقيادات الجيش العراقي كانت في طليعة المعترضين والمحتجين، غير أن هذه الاعتراضات لا تلقى أذناً صاغية، لأسبابٍ منها سطوة الأمر الواقع، ولكون الحشد لا يخضع لأي جهازٍ رسمي عراقي، على الرغم من أنه يتمتع بمزايا الانتساب للدولة، ثم لظروف محاربة تنظيم داعش الإرهابي، علاوة على أن هناك تأييداً واسعاً في صفوف الطائفة الشيعية للحشد.
يأتي القرار الجديد للعبادي محاولة لتحقيق توازنٍ في مطالب متعارضة في الداخل، كما في الخارج، فليس سراً أن الولايات المتحدة دعت، غير مرة، لحلّ الحشد، لكن إيران تتمسك به تمسكاً مطلقاً. وقبل أسابيع، كان قاسم سليماني يتحدّث عن استعداده لتحويل الحشد إلى حرس ثوري، على غرار الحرس الثوري الإيراني الذي يمسك بمفاصل الدولة الإيرانية، ويرتبط حصراً بولي الفقيه، من دون أي مستوى آخر من المستويات العليا في الحكم، ويعتبر "دولة عميقة" داخل الدولة الرسمية.
أظهرت محاولة التوازن هذه قدراً كبيراً من التناقض في القرار الذي يجعل من الحشد تشكيلاً
يسترعي الانتباه أن قرار العبادي لم يعلن حل الحشد وضم منسوبيه إلى الجيش، إذ حافظ القرار على كيان الحشد الشعبي، وألحقه بالقائد العام للقوات المسلحة، والعبادي نفسه هو من يتولّى هذا المنصب،.بما يعكس من جهةٍ صراعاً على النفوذ، وتحجيماً لنفوذ زعماء المليشيات، كما يعكس، من جهة ثانية، إرادة سياسية بالحفاظ على هذا الكيان شبه العسكري، وإرضاء من يتعلقون به.
يشمل القرار بنوداً أخرى ذات أهمية، ومنها البند السادس الذي يقضي بفك ارتباط منسوبي الحشد عن الأطر السياسية والحزبية، ويمنع العمل السياسي في صفوفه. ولا شكّ في أهمية هذا البند في هذه الظروف، غير أنه قابل للتأويل أيضاً، ففي وسع زعماء المليشيات القول إنهم، مع منسوبيهم، ليسوا جهةً سياسية أو حزبية، بل مجرد تجمع شعبي وطني.
لدى تشكيل الحشد الشعبي، عقب استيلاء "داعش" على الموصل، لم يتم حل المليشيات وفتح الباب أمام الجميع للانضواء في الحشد، فما جرى هو على العكس تماماً، فقد تم اهتبال فرصة تشكيل الحشد، من أجل تقنين وجود المليشيات وتكريسها، مع تحميل الدولة مسؤولية نفقاتها ورواتب منسوبيها. والآن، سوف يُصار إلى تكريس وجود الحشد مرة أخرى، وحتى احتفاظه بمسماه، مع فارق وحيد، هو اعتباره جزءاً من القوات المسلحة. والفيصل هو في ما سيجري على أرض الواقع، إذ يمكن أن يكون هناك ارتباط إداري ومالي مع الجيش، لكن سلطة القرار القيادي تبقى مستقلةً ما دام الحشد "تشكيلاً عسكرياً مستقلا". ولهذا، لم يبد الحشد أي اعتراضٍ على أمر العبادي الديواني، فقد قال الناطق باسم الحشد، أحمد الأسدي، تعقيباً على الأمر "إنه لم يتناول صلاحيات قائد القوات أو نائبه".
أما البند الثاني فيتحدّث عن أن الحشد سوف يضاهي جهاز مكافحة الإرهاب الحالي من حيث التنظيم والارتباط. ويجري تفسير هذا البند من الحشد على أنه سيوفر فرصة التدريب والتجهيز للحشد من جهاز مكافحة الإرهاب، علماً أن هذا الجهاز الذي يضم قواتٍ خاصةً يحظى باعتبار كبير، وهذا "الاعتبار الكبير" سوف يتم إسباغه على الحشد أيضا، ما دام الأمر الديواني جعل الحشد يضاهي الجهاز.
ما هو أكثر أهمية من هذا الأمر وغيره، هو الأفق السياسي للدولة وأجهزتها، بما فيها رئاسة الحكومة التي تحوز الجزء الأعظم من الولاية السياسية. وما زال هذا الأفق قائماً على منطق التغليب الطائفي، بدل أن تكون الدولة وطنيةً جامعةً، فمليشيات بعينها يجري احتسابها وطنيةً وشعبيةً، فيما يحظر على المكون الآخر تشكيل قوة مسلحة، إذ يُحال بين السنّة وتشكيل حرسٍ وطني، باعتبار أن الدولة تقوم بالواجب. ولكن، حين يتعلق الأمر بمكوّنٍ بعينه، فإنه يمنح استثناءاتٍ بلا حدود، علماً أن الأصل في الأشياء هو حل المليشيات ودعوة منسوبيها إلى الانضمام إلى الجيش، وليس السماح لهذا الطرف أو ذاك بإنشائها.
نوري المالكي رئيس الحكومة السابق، وهو أحد أبرز الآباء "الروحيين" للمليشيات الطائفية، سبق أن أعلن، في يونيو/ حزيران 2015، على هامش مؤتمرٍ في الذكرى الأولى لفتوى المرجع الجهادية، رفضه دعوات بناء الجيش العراقي، ودعا، في المقابل، إلى "ضرورة دعم الحشد الشعبي وتقويته". وسبق أن اعتبر العبادي، غير مرة، أن الانتهاكات الواسعة والمتكرّرة (بما فيها تدمير مساجد) التي يُقدم عليها الحشد "أخطاء فردية". من دون أن يخضع المرتكبون لأية مساءلةٍ أو محاسبة. والآن، مع احتساب الحشد جزءاً من القوات المسلحة، فإن أي نقد له ولأدبياته وممارساته، سيكون في حكم المحظور، لكون أفراده جزءاً من الجيش. وعليه، فلعل رئيس الوزراء الأسبق، إياد علاوي، لم يقع في المبالغة، حين صرح، قبل أيام، إنه "لا دولة في العراق، وإيران هي التي تختار رئيس الوزراء".