لا يختلف اثنان أن إيران باتت قوة إقليمية عظمى، بل هي القوة الإقليمية الوحيدة في المنطقة منذ عشرة أعوام على الأقل، واستفادت في صورة أساسية من غياب طرف عربي قيادي، وعدم جاهزية تركيا للعب دور يتعدى حسابات المصالح الاقتصادية من جهة، ومن جهة ثانية وجود وجهتي نظر داخل حزب "العدالة والتنمية" بشأن التعاطي مع ملفات الشرق الأوسط. فبينما يبدي رئيس الوزراء، رجب طيب أردوغان، رغبة زجّ بلاده بقوة، يعارض رئيس الدولة، عبد الله غول، ذلك.
تركّز الحضور الإيراني بقوة في العديد من البلدان العربية: لبنان، سوريا، العراق، اليمن، البحرين. وبفضل النجاحات التي حققتها طهران في مد نفوذها إلى هذه البلدان، أخذ طموحها يذهب للتوسّع نحو بقية البلدان العربية في الخليج ومصر والسودان، وحتى المغرب، وبعض بلدان أفريقيا السوداء.
ويمكن اعتبار عدوان يوليو/ تموز على لبنان سنة 2006، محطة رئيسية. فبفضل فشل إسرائيل في القضاء على "حزب الله"، حققت إيران نصراً كبيراً ساعدها على تعزيز رصيدها في المنطقة، الذي اكتسب للمرة الأولى بعداً شعبياً، من طرف الشارع العربي التواق إلى ردع إسرائيل.
وهناك إجماع في الأوساط الدولية على أن إيران تعرف ما تريد جيداً، ولذلك كانت حريصة في كافة جلسات التفاوض مع مجموعة الدول الست، على أن يتم التفاوض حول حزمة مواضيع. ويقول دبلوماسي فرنسي، شارك في المباحثات مع إيران، إنها كانت تفاوض دائماً وعينها على الدور الإقليمي، وخصوصاً في مسألة أمن الخليج. ويؤكد الدبلوماسي أن الإيرانيين أبدوا مرونة حيال مجموعة من الملفات، لكنهم كانوا يصرون على موقع متميّز في معادلة أمن الخليج. وقد رفضوا مبدأ الشراكة مع الأطراف المعنية من بلدان الخليج، من دون أن يبدوا أي تحفظ على حصة أميركية. وفهم الأوروبيون أن طهران كانت معنية بالتفاهم مع الأميركيين فقط، بسبب قناعة بأن مَن يضمن لها الدور هو واشنطن، وليس غيرها.
ومن الثوابت التي بات متعارفاً عليها، أن هناك تلازماً بين السلاح النووي والدور الاقليمي، فالقنبلة الذرية هي ليست للاستخدام ضد عدو خارجي، بل للردع وحراسة الدور، ولذا يبطل مفعولها في حالين، حين لا يتوفر الدور، وعندما يصبح هذا الدور استحقاقاً لا يمكن لأحد أن يصادره أو يعطله. ومن هنا سر معارضة إسرائيل لحصول إيران على سلاح نووي، لأن إسرائيل تريد الاستمرار في لعب دور القوة الإقليمية الرئيسية في المنطقة من دون تهديد أو منافسة.
رغم كل هذه المعطيات، فإن السلوك الإيراني يخالف كثيراً السياق المنطقي للأمور، وتحديداً في العراق وسورية. ففي الوقت الذي لاقى دعم طهران للمقاومة في لبنان استحساناً كبيراً وتعاطفاً شعبياً واسعاً، فإن اصطفافها إلى جانب الرئيس السوري بشار الأسد ورئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته نوري المالكي في وجه الاحتجاجات الشعبية في البلدين، أفقدها الكثير من رصيدها، ولا سيما أن هذا الموقف لا يمكن تفسيره بعيداً عن الجذر الطائفي. وبغض النظر عن الخسارتين الأخلاقية والسياسية، تشكل وقفة إيران إلى جانب النظام السوري استنزافاً اقتصادياً وعسكرياً، حتى أن الكثير من الأوساط الغربية تعوّل على هذا الاستنزاف في إضعاف إيران على المدى الطويل. وممّا لا شك فيه أن إيران لن تفلح في إبقاء الأسد في الحكم، وربما استفادت منه كورقة في بازار المفاوضات، ولكنها ستخسر سورية وشعب سورية في نهاية المطاف.
الأمر الذي لا يقبل الجدل هو أن إيران غرقت في المستنقع السوري، وأغرقت معها "حزب الله"، الذي يشكل بالنسبة لها أكثر من حليف، وسلوكها اليوم في العراق، من خلال إسناد المالكي الذي يتهاوى أمام الحراك العسكري الآتي من المناطق السنية، هو انحدار نحو نفق جديد لا يقل خطورة عن المأزق السوري. صحيح أن الأمر سوف يختلف بالنسبة لها من الناحية الميدانية بسبب قرب المسافات، ووجود حاضنة شيعية قوية، ولكن الاصطفاف إلى جانب المالكي سوف تكون له كلفة عالية.