أيُّها الأصدقاء والصَّديقات،
أبْدَأُ مِنْ حَيْثُ يَجِبُ أنْ أَبْدَأَ ــ بالشُّكْرِ الجَزيلِ، وأعْني ما أقولُ بالجَزيلِ، وأقولُ ما أعْني.
شُكْرًا لـ«السَّبيل» على أنَّها تُوْجَدُ وعلى أنَّها بِوُجودِها هذا تَجْتَرِحُ، اليَوْمَ تِلْوَ الآخَر، والمُناسَبَةَ تِلْوَ الأُخْرى، عُنْوانًا يُقْصَدُ، وبابًا يُدَقُّ لا للقِراءَةِ وللتَّشْجيعِ على القِراءَةِ لَيْسَ إلّا، وإنَّما لفِكْرَةٍ كانَتِ البَشيرَ باسْتِواءِ الواحِدِ مِنّا والواحِدَةِ فَرْدًا حُرًّا لَهُ، ولَها بالطَّبْع، أنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ حتّى في أشْوَكِ المَسائِلِ ــ فِكْرَةِ المَكْتَبَةِ العامَّة...
هَلْ أتعالَمُ بأنْ أُذَكِّرَ نَفْسي وبأنْ أُذَكِّرَكُمْ وأُذَكِّرَكُنَّ بأنَّ «المَكْتَبَةَ العامَّةَ»، في أطْوارِها وأشْكالِها الأُولى، إنَّما نَبَتَتْ في صُفوفِ تِلْكَ الفِرَقِ المَسيحيَّةِ التي اسْتَفْظَعَتْ أنْ يُحْجَزَ بَيْنَ «الكَلِمَةِ»، الكَلِمَةِ البَدْءِ الإلهِ، وبَيْنَ «المُؤْمِنِ»، المُؤْمِنِ بِتِلْكَ الكَلِمَةِ، فَوَضَعَتِ الكِتابَ، مُسْتَوْدَعَ «الكَلِمَةِ» وَمَظِنَّتَها، بِمُتَناوَلِ المُؤْمِنِ، يَتَناوَلُهُ، الكِتابَ، بِيَدَيْهِ العارِيَتَيْنِ، وَيَقْرَأُها، الكَلِمَةَ، بِعَيْنَيْهِ، وَيُؤَوِّلُها بِعَقْلِهِ، هُوَ، مُسْتَغنيًا عَنِ الفُقَهاءِ والفِرّيسيّين ومُعْلِنًا بذلك، في عِدادِ أشْراطٍ أُخْرى، ولادَةَ الإنسانِ الفَرْد؟
شُكْرًا لـ«السَّبيل» أيضًا على هذا اللقاءِ وَلَوْ أنَّ في اعْتِلاءِ هذا المِنْبَرِ، بَعْدَ الثَّلاثَةِ الأعلامِ الذين تَوالوا عليه، مَشَقَّةً لا أُحْسَدُ عَلَيْها. فإذْ أقِفُ اليَوْمَ، في «اليَوْمِ العالَمِيِّ لِلُّغَةِ العَرَبِيَّةِ» على هذا المِنْبَرِ، لا أقِفُ بَيْنَ أيْديكُم، أنْتُمُ وأنْتُنَّ، على رَهْبَةِ المَوْقِفِ، وَحَسْبُ، بَلْ أقِفُ أيْضًا بَيْنَ يَدَي الرّاحِلَةِ أملي نصراللَّه، والألْمَعِيَّيْنِ الأريحِيَّيْنِ نازك سابا يارد وأحمد بيضون.
أسْتَمْسِكُ، نَعَمْ، بِقواعِدِ النَّحْوِ، وَأُغَلِّبُ المُذَكَّرَ، ولكنَّ هذا التَّغْليبَ لا يَحولُ بَيْني وَبَيْنَ المُلاحَظَةِ أنَّني، بِتَواضُعٍ، ثالِثَةُ ثَلاثٍ يُكْـتَبُ لَهُنَّ أنْ يَعْتَلينَ هذا المِنْبَرَ الذي يَحْتَفِلُ اليَوْمَ بالقِراءَةِ وبالعَرَبِيَّةِ مَعًا.
تَقَدَّمَ مِنْ أوْراقِ اعْتِمادي لِنَيْلِ هذا الاسْتِحقاقِ ما قَرَأَهُ عَلَيْكُم مِنْ يَوْم الدّينِ الجَميلانِ جوليا قصّار ورِفْعَت طربيه، وَلكنّي، قَبْلَ حَديثِ الكِتابَةِ، بل في الطَّريقِ إلى حَديثِ الكِتابَةِ، أُحِبُّ أنْ أفْتَرِضَ أنَّ في عِدادِ ما يُخَوِّلُني، أيْضًا، أنْ أتَبَوَّأَ هذا المِنْبَرَ تِلْكَ السَّنواتِ الطَّويلَةَ مِنَ العَمَلِ في مَجالِ النَّشْرِ بالعَرَبِيَّةِ تَحْتَ ألْوانِ دارٍ تَحْمِلُ اسْمَ «دار الجديد».
أهْوَنُ شَيْءٍ، بِصِفَتي هذهِ، ناشِرَةً، أنْ أُبادِئَكُم وأُبادِئَكُنَّ بالرِّثاءِ لحالِ النَّشْرِ والقِراءَةِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أهْلِ هذه اللُّغَة. لا أفْعَل. فالرِّثاءُ لِهذِهِ الحال شَيْءٌ، وما أفَدْتُهُ شَخْصِيًّا مِنْ مُزاوَلَةِ هذهِ المِهْنَةِ كَما يَليقُ بِها أنْ تُزاوَلَ، أيْ مِنْ خِدْمَةِ نُصوصٍ بأقْلامِ آخرينَ، شَيْءٌ آخَر. وأُحِبُّ لَـكُمْ أنْ تُصَدِّقوا أنَّهُ لَيْسَ مِنَ السَّهْلِ على الإطْلاقِ أنْ أصِفَ هذا «الشَّيْءَ الآخَر» الذي يَبْدَأُ، أحْيانًا، بِمُطالَعَةِ نَصٍّ يُوْشِكُ ألّا يكونَ حَبْلَ السُّرَّةِ قَدْ صُرِمَ، بَعْدُ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ صاحِبِهِ/صاحِبَتِهِ، مِمّا يَجْعَلُ القِراءَةَ أدْنى إلى العَمَلِ العِيادِيِّ السَّريري، الجَسَدِيِّ والنَّفْسِيِّ، ولا يَنْتَهي بالتَّدْقيقِ في نَصٍّ أدْرَكَهُ اليُـتْمُ بأنْ ماتَ عَنْهُ صاحِبُهُ/صاحِبَتُهُ، مِمّا يَجْعَلُ القِراءَةَ أدْنى إلى التَّحْنيطِ، بالمَعْنى الشّعائِرِيِّ للكَلِمَةِ ــ وبَيْنَ المُطالَعَةِ هذِهِ والمُطالَعَةِ تِلْكَ، وما بَيْنَهُما مِنْ مُطالعاتٍ، يَتَمادى هذا «الشَّيْءُ الآخَرُ» في كُلِّ الجِهاتِ والاتِّجاهات: مِنَ الوُقوفِ عِنْدَ العاداتِ اللُّغَوِيَّةِ لكاتِبِ ما، إلى الوُقوفِ عِنْدَ خاطِرِ أناهُ إن كانَ مِنَ المُصابينَ بِذاتِ الأنا إلى إعْمالِ الخَيالِ في الشَّكْلِ الأوْفَقِ لإخْراجِ النَّصِّ المَعْنِيِّ كِتابًا على المَلأ وهكذا.
لَعَلَّ هذا الذي أصِفُ أنْ يَكونَ، على وَجْهِ العُمومِ، مِنْ أيِّ ناشِرٍ بأيَّةِ لُغَةٍ مِنَ اللُّغاتِ، ولكِنْ سَلِّموا مَعي، وأنْتُمُ جَميعًا أهْلُ كـتابٍ، أنَّ النَّشْرَ بالعَرَبِيَّةِ ما يَزالُ مِهْنَةً تَقْريبيَّةً، والتَّقْريبيَّةُ التي أعْني لا تَقِفُ عِنْدَ الخَلْطِ بَيْنَ الأعْمالِ المُطيفَةِ بالمُنْتَجِ/السِّلْعَةِ المُسَمّاةِ كتابًا، (النَّشْرِ، الطّباعَةِ، التَّوْزيعِ، إلى آخِرِه)، بَلْ تَعْدو ذلكَ بأطوارٍ حَيْثُ إنَّ عَلَيْنا أنْ نَعْتَرِفَ أيْضًا، على مَشَقَّةِ الاعْتِرافِ، بأنَّهُ لا قَواعِدَ ولا أصولَ تَحْريريَّةً للنَّشْرِ بالعَرَبِيَّةِ، وَمَنْ يَقُلْ للنَّشْرِ يَقُلْ للكِتابَة ــ وكُلُّ كِتابٍ باللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ دَليلٌ على ذلكَ، بِما فيها تِلْكَ الطّائفةُ القليلَةُ مِنَ الكُتُبِ التي تُحاوِلُ أنْ تَلْتَزِمَ قواعِدَ وأصولاً نَشْرِيَّةً صارِمَةً، ذلكَ أنَّ قِلَّةَ هذهِ الكِتُبِ تَجْعَلُ مِنْها الاسْتِثناءَ الذي يُؤَكِّدُ القاعِدَةَ... قاعِدَةَ العشوائيَّةِ التَّحْريريَّة. وإذ أُحيلُ هُنا، بلا تَرَدُّدٍ ولا تَواضُعٍ زائِفٍ، إلى كُتُبِ دارِ الجَديدِ، أو فَلْنَقُل إلى الأكْثَرِ مِنْ كُتُبِها بِلِحاظِ أنْ لَيْسَ مِنْ كائِنٍ مادِّيٍّ أوْ مَعْنَوِيٍّ بِلا خَطيئَة، فَلَيْسَ مِنْ بابِ الدِّعايَةِ، وإنَّما عَوْدٌ على ما عَلَّمَتْنيهِ، ككاتِبَةٍ، مِهْنَةُ النَّشْرِ: ما عَلَّمَتْني أنْ آمُرَ بِهِ نَفْسي مِنْ مَعْروفٍ، وما عَلَّمَتْني أنْ أنْهاها عَنْهُ مِنْ مُنْكَر!
لا أدَّعي أنَّني أتْقَنْتُ كُلَّ ما أُتيحَ لي أنْ أتَعَلَّمَهُ ولكنَّ قِلَّةَ إتْقاني لا تحول بَيْني وبَيْنَ العِرْفانِ بِجميلِ كُلِّ الذين واللَّواتي أتاحَتْ لِيَ مِهْنَةُ النَّشْرِ أنْ أعْرِفَ وأنْ أُخالِط، وَبِجميلِ كُلِّ النُّصوصِ التي أجاءتني هذِهِ المِهْنَةُ إلى خِدْمَتِها ــ بِصَرْفِ النَّظَرِ عَمّا قَدْ يَكونُ قَدْ دَخَلَ على شُعوري نَحْوَها، اليَوْمَ، كَقارِئَةٍ، مِنْ فُتور.
فالنّاشِر، أيْضًا، كَكُلِّ واحِدٍ مِنّا، وَواحِدَةٍ، صاحِبُ مِزاجٍ وَتَبَعُ أهْواءٍ وأمْيال، ولكنْ حَذارِ الظَّنَّ بأنَّ تَقَلُّبَ المِزاجِ والاسْتِهداءَ بالهَوى دَليلٌ على حَيْرَةٍ أوْ تيهٍ أوْ تَرَدُّد. إنَّما العَكْسُ هو الصَّحيح: صاحِبُ المِزاجِ، أسيرُ الهَوى طَوْعًا، عَنيدٌ طمّاعٌ بالمَزيدِ لا بالأقَلِّ ــ بالمَزيدِ، وحَقّي أنْ أُضيفَ، مِنَ الأمْرِ نَفْسِه.
أيها الأصدقاء، أيتها الصديقات،
كُلُّ مِنْبَرٍ مَهْما عَلا، وَمَهْما ذَربَ لِسانُ صاحِبِه، كُرْسِيُّ اعْتِراف؛ فَكَيْفَ بِمَنْ، شَأْني، أقْبَلَتْ على هذا المِنْبَرِ والنِّيَّةُ مِنْها أن تُبادِلَ المُتَحَلِّقينَ حَوْلَهُ وحَوْلَها الوُدَّ، وأنْ تَبُثَّهُم بَعْضًا مِنْ ذاتِ نَفْسِها لا أنْ تَخْطُبَ فيهم.
مِنْ أوَّلِ كِتابٍ نَشَرَتْهُ دارُ الجَديدِ مَطالِعَ التِّسْعينيّاتِ وَوُسِمَ بِوَسْمِها إلى يَوْمِنا هذا لا أظُنُّني الْتَمَسْتُ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ سِوى أنْ أجْتَهِدَ رَأْيي في اقْتِراحِ نَماذِجَ وعَيِّناتٍ عَمّا يُمْكِنُ أنْ يَمْثُلَ عَلَيْهِ، شَكْلًا ومَضْمونًا، كِتابٌ بالعَرَبِيَّةِ يُلَبّي مَعاييرَ الجودَةِ صِناعَةً وَمَقْروئِيَّة ــ ولا أرى مِنْ ضَيْرٍ قَطُّ في التَّسْليمِ، ابْتداءً وفي مَنأى مِنْ أيّ شُعورٍ بالدّونيَّةِ، بأنَّ إمامي في هذا السَّعْي هو تِلْكَ الكُتُبُ التي أُطالِعُها باللُّغاتِ التي تَيَسَّرَ ليَ أنْ أتَعَلَّمَها، وَتِلْكَ التي أكْتَفي بالوقوفِ على عَتباتِها وبِتَفَقُّدِها مُتَحَسِّرَةً أنَّني لا أمْلِكُ مَفاتيحَ المُطالَعَةِ فيها. مِنْ هُنا، ما ذَهَبَتْ إلَيْهِ دارُ الجَديدِ، مِنْ أوَّلِ أمْرِها، مِنْ وَصْفِ نَفْسِها بأنَّها «فِكْرَةٌ» أكْثَرُ مِنْها فَقّاسَةُ كُتب. وَمَنْ يَقُلْ بأنَّهُ يَجْتَهِدُ ويَسْعى وَيَلْتَمِسُ وَيَتَحَرّى، يُسَلِّمُ، بِلا غَضاضَةٍ، أنَّهُ لا يَرْمي عَنْ وَحْيٍ إو إلْهامٍ، بَلْ عَنْ تَقْديرٍ وَتَدْبيرٍ بَشَرِيَّيْنِ يَقْبَلانِ السَّدادَ والخَطَأ، وأنَّ سَهْمَهُ، اسْتِطرادًا، يُصيبُ أحْيانًا وَيَطيشُ أحْيانًا أُخْرى.
وإنْ تَكُنْ دارُ الجَديدِ بِحَدّ ذاتِها فِكْرَةً، فَشيمَةُ الفِكْرَةِ أنْ تَعْمَلَ في صاحِبِها/صاحِبَتِها بِمِقْدارِ ما يُحاوِلُ هوَ، أو هيَ، إعْمالَها. وإنْ أدَّعي بأنَّني، بِمَعْنًى ما، كَتَبْتُ جُمْلَةً نَشْرِيَّةً مُفْرَداتُها الكُتُبُ التي وُسِمَتْ بِوَسْمِ دارِ الجديدِ ــ جُمْلَةً بِرَسْمِ التَّنْقيحِ، بل أُوْشِكُ أنْ أقولَ بِرَسْمِ الإنْشاءِ المُتَّصِلِ إلى ما لا نِهايَةَ على أيْدي كُلِّ مَنْ يَأنس/تأنس مِنْ نَفْسِهِ/نفسِها أنْ يَخْدُمَ العربيَّةَ والنَّشْرَ بالعربيَّةِ ــ فَلَمْ أخْلُ أيْضًا أنِ اتَّبَعْتُ هَوًى آخَرَ مِنْ أهواءِ نَفْسي، وهوَ، في الحَقيقَةِ، الهَوى نَفْسُهُ وَعَيْنُهُ وإيّاه، وأنْ جَرَّبْتُها على نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الكِتابَةِ ــ أنْ جَرَّبْتُها على الكِتابَة.
في الأعْرافِ، على ما يُروى، أن يُبادِرَ القاضي عِنْدَ النُّطْقِ بِحُكْمِ الإعْدامِ على مُتَّهَمٍ ما أن يُبادِرَ إلى كَسْرِ سِنِّ قَلَمِهِ دَلالَةً على أنَّ الأمْرَ قَدْ قُضِيَ وأنَّ الحُكْمَ قَدْ نَزَل. وَشَيْءٌ مِنْ هَذا القَبيلِ ما يكونُ مِنَ الكاتِبِ/الكاتِبَةِ عِنْدما يُقَرِّرُ أنْ يُذيعَ في النّاسِ كِتابًا كَتَبَهُ، سِوى أنَّ الكاتِبَ، في هذا المَقامِ، يُرَتِّبُ نَفْسَهُ في مَرْتَبَةِ القاضي والمُتَّهَمِ معًا. فهوَ مَنْ يَنْطِقُ بالحُكْمِ، وهو مَنْ يَكْسِرُ سنَّ القَلَمِ، وهو مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ الحُكْم. فَمَنْ يُذيعُ في النّاسِ كِتابًا كَتَبَهُ لا يَدَّعي أنَّهُ يَمْلُكُ مَلَكَةَ صِناعَةِ الكِتابَةِ فَحَسْبُ، بَلْ يَدَّعي أيْضًا أنَّ لَدَيْهِ ما يَقولُهُ ــ وإذا كانَتِ الكِتابَةُ مِنْ حَيْثُ هيَ صِناعَةٌ تَحْتَ حَدِّ الاكْتِسابِ، فَدَعْوى الواحِدِ مِنّا والواحِدَةِ أنَّ لَدَيْهِ/لَدَيْها ما يَجْهَرُ بِهِ على المَلأِ مِمّا لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهِ دَعْوًى ثَقيلَةٌ عَظيمَةٌ جَليلةٌ لا بُدَّ مِنْ شَيْءٍ مِنَ التَّهَوُّرِ ومِنَ الطَّيَرَةِ لِحَمْلِها، ولكنَّ التَّهَوُّرَ أصيلٌ في الإنْسانِ سِنْخِيٌّ فيهِ مَرْكوز، وَهَلْ يُسْتَكْثَرُ على مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ أنْ يَحْمِلَ «الأمانَةَ» الإلهيَّةَ مِنْ بَعْدِ عَرْضِها، «عَلَى السَّماوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ» أنْ يَذْهَبَ مَذْهَبَ الحَماقَةِ هذِهِ؟ ــ للتَّذكير، في قُدْسِ كُتُبِ العَرَبِيَّة، في القُرآن: «إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السَّماواتِ وَالأرْضِ وَالجِبالِ فَأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها، وَأشْفَقْنَ مِنْها، وَحَمَلَها الإنْسانُ، إنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولا».
نَعَمْ، أيُّها الأصدقاء، أيَّتُها الصَّديقات، الكِتابَةُ أمْرٌ على هذا القَدْرِ مِنَ الخَطَر؛ وإذاعَةُ الواحِدِ مِنّا والواحِدَةِ ما يَكْتُبُ يَقْتَضي مِنْهُ أنْ يَكونَ «ظَلومًا جهولًا» ــ بِحَقِّ نَفْسِهِ كما بِحَقِّ الآخرينَ... ولا يَفوتُني أنْ أُضيفَ بِحَقِّ اللُّغَةِ التي يَكْتُبُ بها ويكتب فيها. فَقَلَّ بِمَنْ يَكْتُبُ أنْ يُضيفَ أفْكارًا أبْكارًا بَتولاتٍ بناتِ خُدور، بَلْ أعوذُ بِشياطينِ الكِتابَةِ مِمَّنْ لا يُبادِئُ نَفْسَهُ فَيُنَفِّلُ الخَواطِرَ التي تَخْطُرُ لَهُ مُسْتَحْضِرًا تَحَسُّرَ عَنْتَرَةَ: «هَلْ غادَرَ الشُّعَراءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ؟»، أوْ مَلْحوظَةَ الجاحِظ: «إنَّ المَعانِيَ مَطْروحَةٌ في الطَّريقِ يَعْرِفُها العَجَمِيُّ والعَرَبِيُّ والبَدَوِيُّ والقُرَوِيّ...»، وهيَ، لَعَمْري، مَلحوظَةٌ مُسْكِتَةٌ، أو في الأقَلِّ، مُنَبِّهَةٌ لي على ما أطَلْتُ فيهِ واسْتَأْثَرْتُ بِهِ مِنْ وَقْتِكُم. وَيُتابِعُ الجاحِظُ الذي أفْضى بِهِ إلى هذهِ المَلْحوظَةِ ما كانَ مِنِ اسْتِحْسانِ أحَدِهِم بَيْتَيْنِ مِنَ الشِّعّرِ لِما فيهِما مِنْ مَعْنًى مَعَ فَسادِ عِبارَتِهِما فَيقول: «وإنَّما الشَّأْنُ في إقامَةِ الوَزْنِ، وَتَخَيُّرِ اللَّفْظِ، وَسُهولَةِ المَخْرَجِ وَكَثْرَةِ المَاء... إلى آخره».
ولا أحْسَبُني أذْهَبُ إلى غَيْرِ ما يَقولُهُ الجاحِظُ كُلَّما أمْسَكْتُ القَلَمَ كاتبةً وبدا لي أنَّ الكِتابَةَ، في أوَّلِ المَطافِ وفي آخِرِه، هي الكِتابَة. أُفَسِّرُ الماءَ بالماءِ ولا أسْتَعيبُ ذلِكَ ولا أرى مِنْ سَبَبٍ للتَّرَدُّدِ فيه، وإذْ يَكونُ مِنّي ذلكَ فلأنَّ شَرْطَ الكِتابَةِ المَشْروطَ أنْ يُحِبَّ الكاتِبُ اللُّغَةَ التي يَكْتُبُ بِها وفيها وَ«حُبُّكَ الشَّيْءَ، كما تُحِبُّ العَرَبِيَّةِ أنْ تَقولَ، يُعْمي وَيُصِمُّ»، فَحَيَّ على العَرَبِيَّةِ في كُلِّ يَوْمٍ لا في يَوْمِها المُسَمّى فَحَسْبُ... حَيَّ على العَماءِ في العَرَبِيَّةِ والصَّمَم...
* كلمة ألقتها الكاتبة والناشرة اللبنانية بمناسبة تكريمها، الخميس الماضي، في بيروت، من قبل "جمعية السبيل" و"المكتبات العامة لبلدية بيروت"، ضمن "أسبوع اللغة العربية" الذي أقيم بالتوازي مع الاحتفالات بـ "اليوم العالمي للغة العربية"، وتخص بنشرها "العربي الجديد"