لم يكن اختيار الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، برلين ليبدأ منها عهده وجولاته الخارجية، بعد يوم واحد على دخوله قصر الإليزيه، من باب التقاليد الفرنسية فحسب، إنما بالدرجة الأولى كرد واجب للمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، التي قدمت دعمها له، وتأكيد ما سبق أن أعلنه لناحية تفعيل الشراكة الأوروبية.
وتحمل زيارة برلين، في مكانها وزمانها، أبعاداً سياسية واقتصادية لكل من فرنسا وألمانيا، اللتين تعتبران محور وركيزة الاتحاد الأوروبي، لا سيما بعد فوز ماكرون الآتي من خارج الأحزاب التقليدية، على مرشحة "الجبهة الوطنية" اليمينية المتطرفة، مارين لوبان، المناهضة للاتحاد الأوروبي، والتي كان وصولها سينعكس سلباً على علاقة بلدها، ليس فقط مع برلين إنما بدول الاتحاد بشكل عام، وهي التي كانت تدعو إلى الانفصال عن الاتحاد الأوروبي. أما بوصول ماكرون، الذي اختار الفرنسيون بانتخابه البقاء داخل الاتحاد الأوروبي، إلى الإليزيه، فقد تنفست ألمانيا الصعداء، كبلد مؤتمن على مصير التكتل من التفكك، وما تحمله من التزامات تجاه جارتها، والشريك الأكثر أهمية في أوروبا التي تعاني من أزمات اقتصادية، وهو ما كان أكد عليه الرئيس الجديد خلال حفل تنصيبه، أول من أمس، واصفاً أوروبا بأنها وسيلة "لقوتنا وسيادتنا".
وفي هذه المرحلة الجديدة من تاريخ فرنسا، يرى خبراء في الشؤون الاستراتيجية الأوروبية أن العلاقة بين باريس وبرلين يجب أن تأخذ بعداً مختلفاً، جوهرها أن يكون التحديث الفرنسي المفترض محل توافق بين القطبين الأوروبيين، لأن إخفاق فرنسا ماكرون سيسمح لليمين المتطرف بالتمدد على حساب الأحزاب التقليدية الأخرى المتهالكة حالياً. ويأتي هذا التحدي في ظل استحقاقات أساسية سيواجهها الرئيس الشاب، منها اختيار أعضاء حكومته التي سيكون لها تأثير هام على نتائج الانتخابات البرلمانية المقررة في يونيو/ حزيران المقبل، والخوف من عدم الحصول على أغلبية تتيح له المضي في قراراته الداخلية والأوروبية. علماً أن لوبان أظهرت، خلال حملتها الانتخابية، الكثير من العداء لألمانيا وشخص ميركل، بقولها إنه في النهاية ستحكم فرنسا امرأة، إما أنا أو ميركل.
من هنا، يرى المراقبون أنه مع تغليب الأكثرية المطلقة من الناخبين الفرنسيين لصوت العقل، وليس الدعاية العدوانية القومية المناهضة لألمانيا، والتصويت لليبرالي الاجتماعي ماكرون، دخلت باريس في عصر جديد، يعتمد على الانفتاح، وعليها بالتالي السعي للنجاح مع شركائها الأوروبيين، انطلاقاً من أن انتخاب ماكرون ليس مجرد مسألة قيادة فرنسا خلال الخمس سنوات المقبلة، إنما انعكاسه على مستقبل الاتحاد الأوروبي، الذي تعتبر باريس من الأعضاء المؤسسين له، وثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، وواحدة من ركائز المجتمع الأوروبي. وبالتالي على الجميع تحمل المخاطر لجعله مرة جديدة مشروعاً حقيقياً، والعمل بتوجهات سياسية سليمة للميزانية في جميع أنحاء منطقة اليورو، لأن اليأس كبير بين الشباب، وليس فقط في الجنوب الأوروبي، بالإضافة إلى أهمية إعطاء دول شرق أوروبا، المنضوية في الاتحاد، دوراً أكبر. ومن الناحية الاقتصادية، يقول خبراء في معاهد اقتصاد ألمانية، إن على فرنسا أن تأخذ بعين الاعتبار انتقادات المفوضية الأوروبية ومطالبتها بخفض الإنفاق العام في المكان الخطأ، والذي يقدر بـ57 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في ظل عجز في الموازنة، وهذا محل ضرر على المدى الطويل. ويؤكدون أن أي إصلاح لا يمكن أن يتم، إلا من قبل الحكومات الوطنية، ولا يمكن للشركاء الأوروبيين إلا المساعدة في دعم الرغبة، وأن برلين ليس لديها توجه أن تكون أوروبا ألمانية.
وعلى الجهة الألمانية، يعتبر الخبراء أنه بات على ميركل توثيق التعاون مع باريس، والتفكير بتطوير برامج وصناديق استثمارية مشتركة، والتعاون في القضايا الأمنية والعلاقات الدولية، معولين على ثقة فرنسا بالاتحاد الأوروبي وإمكانية أن يكمل بدينامية جديدة، مع ضرورة استمرار سياسة التجديد السياسي والمالي والاقتصادي، مع التأكيد على أن ذلك يجب أن يتم، بغض النظر عما طرحه ماكرون لجهة تقليل برلين من صادراتها إلى بلاده، علماً أن فارق الصادرات والواردات بين البلدين بلغ 253 مليار يورو في العام 2016. ورغم تأييد تصريح ماكرون حول ضرورة إعادة صياغة اتحاد أوروبي أكثر فاعلية وديمقراطية، لاقى كلامه حول تقليل الصادرات رفضاً من قبل وزير مالية ولاية بافاريا، ماركوس سودر، الذي رأى، في حديث صحافي، أن ذلك غير منطقي، مشدداً على أن "البضائع الألمانية مطلوبة في جميع أنحاء العالم نظراً لنوعيتها الجيدة، ولا يمكن فرض ذلك على شركاتنا، لأن ذلك يعني فقدان الوظائف بالنسبة لنا، وعلى شركائنا، ومن خلال الإصلاحات، تحسين قدرتهم التنافسية". وأيد كذلك رأي وزير المالية الاتحادي، فولفغانغ شويبله، قائلاً إن "الاتحاد الأوروبي ليس بحاجة إلى وزيري اقتصاد ومال، لأننا لسنا بحاجة لمزيد من البيروقراطية في بروكسل". وأوضح أن "التعامل مع فرنسا لن يقوم على المساعدة، ولكن على التعاون، ولدينا مصلحة كبيرة في فرنسا ناجحة، وهذا رأي ميركل أيضاً". وأشار إلى أن "فرنسا بحاجة لبعض الإصلاحات، خصوصاً في مجالات العمل والمعاشات التقاعدية والنظام الضريبي من أجل زيادة قدرتها التنافسية، ولا يمكنها أن تتقاسم الديون".
وأمام هذا التحدي، يؤكد المراقبون أن الأزمة الاقتصادية في فرنسا لها تأثير مباشر على ألمانيا، انطلاقاً من أن باريس هي أهم شريك تجاري لبرلين، إذ تصدر 6.6 في المائة من صناعات السيارات الألمانية إلى فرنسا، علماً أن ألمانيا تنفق فقط 2 في المائة من الموازنة الألمانية على الابتكار والتطوير والتربية والتعليم، وهو نصف ما يستثمر في دول صناعية أخرى، وهذا ما يعرضها لكثير من الانتقاد من قبل اقتصاديين، لأن استثماراً أقل يعني مردوداً أقل وتراجعاً في النمو والازدهار، بينما المطلوب استثمار العائدات التجارية في مشاريع البنية التحتية والابتكار والأمن والتربية والتعليم. ويخلص الخبراء إلى أن على برلين أن تتحمل مسؤولية أكبر حيال تعزيز حضور ماكرون، وهو الوحيد الذي اتخذ، خلال حملته الانتخابية، موقفاً واضحاً ومؤيداً للاتحاد الأوروبي، ودعمه في مخططاته الاستثمارية والاستفادة بطريقة منتجة لتحفيز الاقتصاد، توازياً مع فرض المزيد من الإصلاحات العاجلة، والحد من الإنفاق الحكومي لتحقيق الاستقرار في فرنسا، وهذا ما سيساهم في جعل الاقتصاد الفرنسي يواصل النمو خلال السنوات المقبلة، مع الإقرار بصعوبة تحقيقه كونه سيواجه من قبل النقابات العمالية. هذا إضافة إلى ضرورة دعم التعليم والتدريب، لا سيما بين الشباب في ظل الإحصاءات التي تشير إلى أن شخصاً من بين كل أربعة فرنسيين، تحت سن الـ25 عاطل من العمل، ومعدل البطالة بلغ 10 في المائة.
وفي ألمانيا، ليست مهمة ميركل أسهل، فهي التي تنتظرها وحزبها استحقاقات داخلية كبيرة قبل الانتخابات البرلمانية الأوروبية، والضجة المثارة حول حساب التفاضل والتكامل الفرنسي الألماني، أولها نجاحها وحزبها في الانتخابات التشريعية العامة المقررة في سبتمبر/ أيلول المقبل، على أن تليها في فبراير/ شباط 2018 انتخابات برلمانية إقليمية هامة جداً في ولاية سكسونيا السفلى، وفي خريف العام نفسه في ولايتين، هما هيسن وبافاريا، وللأخيرة خصوصية كبيرة بالنسبة للاتحاد الأوروبي.