يحلّل باحثون ومختصّون "سوسيولوجيا العمارة" انطلاقًا من الممارسات الاجتماعية السائدة في المحيط المعماري محلّ الدراسة، والتي تخضع في حدّ ذاتها إلى عوامل اقتصادية، ثقافية وسياسية، فهل يمكن القول انطلاقا من هذا التحليل إن الفوضى التي تتميّز بها الهندسة المعمارية في الجزائر هي نتاج السلوكيات الاجتماعية لشبابها؟
مبدأ "الفائدة" الاجتماعية
تعبّر الهندسة المعمارية في الجزائر، بشكل أو بآخر عن ثقافة وملامح المجتمع الذي أنتجها والشباب الذي يعيش في هذا الفضاء المعماري الذي يتّسم بشكل عام بالفوضى وإهمال تام لجمالية واجهة البنايات، سواءً تعلّق الأمر بالعمارات، الفيلات، السكنات الأرضية أو المؤسّسات العمومية والخاصّة.
وفي جميع دول العالم، تؤثّر العمارة في المجتمع وتتأثر به، وفقًا لاحتياجاته والظروف التي يفرضها كل عصر جديد، فبعد قيامها لوقت طويل على الفولاذ استجابة لحاجة الحماية والأمن، ظهرت هندسة الزجاج، لتعبر عن الحاجة المتزايدة لـ "الشفافية" في العصر الحالي، وتغير التصميم العمودي الذي كان سائدًا، وحل محله نموذج التصميم الأفقي الذي تبحث المؤسسات من خلاله عن كسر حواجز الهيكل التنظيمي الرأسي.
مثل هذه التحوّلات تحدث وفقا لمتطلبات المجتمع، وفي الجزائر تخضع العمارة أيضًا إلى حاجات الشباب الذي يمثل النسبة الغالبة من الشعب، فكان التصميم السائد قبل العشرية السوداء يتمثل في "المنازل الأرضية" التي يكون بها فناء واسع وحديقة صغيرة تزرع بها بعض أنواع الخضروات وأشجار الفواكه الموسمية، ولكن مع موجة النزوح الريفي التي اتسمت بها بداية الألفية الجديدة، ظهرت البنايات العالية بشكل عام، سواء في المدن الكبيرة أو الصغيرة وفي الأحياء الراقية والبسيطة.
وتستند البنايات العالية والمنازل متعدّدة الطوابق، إلى مبدأ تحقيق "الفائدة الاجتماعية"، حيث تسعى العائلات الجزائرية من خلال هذا الخيار لضمان دخل مالي من جهة، ومسكن لأبنائها على المدى البعيد من جهة أخرى.
تقوم هندسة معظم البيوت الجزائرية على تخصيص الطابق الأرضي كـ محلّات تجارية يقوم صاحب البيت بفتحها أو تأجيرها، ثم طابق أوّل للسكن، وبعدها ترك البناية غير مكتملة. وعلى هذا الأساس سيكون للأبناء الراغبين في الزواج مستقبلًا فرصة لبناء طابق ثان وثالث من أجل السكن فيه. ولهذا نجد أن غالبية البنايات الجزائرية في معظم الولايات غير مكتملة بما فيها تلك التي شيّدت منذ سنوات طويلة. وفي سبيل تحقيق مبدأ "الفائدة" دائمًا لا يحترم العديد من السكان عدد الطوابق المسموح بها، ويلجأون لبناء أربعة بدل ثلاثة طوابق.
الجمال آخر ما يهمّ
إن آخر ما يفكّر فيه الشباب الجزائري جمالية العمارة وشكلها الخارجي، لأن أوّل وآخر ما يسيطر على تفكيره هو الحصول على بناء يوفّر له أكبر قدر من الفائدة من ناحية المساحة والراحة ويضمن له مدخولًا ماليًا عن طريق فتح محلّ صغير في إحدى غرفه أو تأجيرها لعائلة صغيرة. جابر شاب يبلغ من العمر 30 سنة، يعمل كعون حماية مدنية، يقول في حديث إلى "جيل": "انتهيت من بناء الطابق الثاني في بيت والدي لأتزوّج قريبًا، في مقابل ذلك قمنا بتأجير الطابق الأرضي كمخزن للألبسة". وعن الشكل الخارجي للبيت الذي مازال بدون طلاء يقول جابر: "طلاء بيت بهذه المساحة من الخارج مكلف جدًا، ونحن في غنى عن هذه المصاريف"
.
وينظر كثير من الجزائريين دائمًا إلى الشكل الخارجي والجانب الجمالي للبنايات على أنه أقل من أولوية، وإن كان هناك من يحترم على الأقل تصميمًا معماريًا بسيطًا، فهناك من يستغني عن ذلك بشكل تام. ولا يقتصر هذا الأمر على البنايات الفوضوية وإنما القانونية أيضًا.
أغرب أشكال البنايات التي لا يمكن أن تخطر على بال أحد، يمكن أن تجدها في الجزائر، كبيت أحد أعمدته الأربعة "عمود كهربائي للإنارة العمومية". وتحدث هذه الغرائب عندما يغامر شاب في بناء طابق أرضي فوضوي وينتظر رد فعل السلطات، فإذا لم تتحرّك أضاف طابقًا آخر، وربما قام بتوسيع الطابق الأرضي بشكل عشوائي، والنتيجة "بناية غريبة".
في كثير من الأحيان يقدم السكان نموذجا عن تصميم البناية لطلب رخصة البناء من السلطات المعنية، ثم لا يحترمون ما ورد في التصميم الذي يدخل عليه صاحب البيت ما يشاء من تغييرات عشوائية. ويصل التفكير بـ"الفائدة" في العمارة إلى حد قيام سكان العمارات بتهديم بعض الجدران وإعادة تصميم البيت من الداخل وفقا لمتطلباتهم، وهو ما تسبّب في مرّات كثيرة في حوادث انهيار ببعض العمارات.
لا مجال للإبداع
ارتباط الهندسة المعمارية بفكرة "الفائدة" أو المصلحة لدى كثير من الجزائريين، لا تقتصر فقط على الشباب الذين يرغبون في بناء منازلهم الخاصّة، وإنما أيضًا لدى المسؤولين والمشرفين على بناء المؤسسّات العمومية، الجامعات، والمدن الجديدة التي تغرق في الفوضى وقد صُمّمت بأشكال هندسية غريبة وبسيطة جدًا، ورغم استخدام الزجاج في بعض أجزائها تبقى غير متناسقة لدرجة يصعب عليك أن تصدق أنها بنيت قبل سنتين فقط أو ثلاث.
مبدأ "الفائدة" في هذه الحالة؛ يرتبط بتخفيض تكاليف التصميم المعماري واحتكار بعض المهندسين المعماريين للمشاريع الكبرى على حساب الشباب من خريجي كليات الهندسة المعمارية الذين يجدون صعوبة كبيرة للإبداع في ظل هذه الظروف، وطبيعة الزبائن الذين لا يهتمون بالتصميمات الحديثة والمبتكرة بقدر اهتمامهم بالتكاليف المنخفضة والتصاميم البسيطة غير المكلفة. وقد يستغني آخرون نهائيا عن خدماتهم ويتحوّل صاحب البيت نفسه إلى مهندس يصمم ما يشاء بالطريقة التي يشاء دون أدنى قواعد علمية أو رقابة تمنعه.
تحليل سوسيولوجيا العمارة في الجزائر، يكشف أنه من الصعب جدًا توقّع بروز اهتمام بالجانب الجمالي للبنايات في المستقبل القريب، لا سيما بعد فشل تطبيق قانون قواعد مطابقة البنايات وإتمام إنجازها الذي صدر سنة 2008، من أجل حل مشكلة البنايات غير المكتملة والاهتمام بواجهتها الجمالية.
يحدث هذا في وقت يطرح فيه باحثون موضوع الانتقال من فكرة "الفن والجمال" في الهندسة المعمارية إلى فكرة "الفن والتعبير". أي أن يصبح لكل بناية تعبير خاص، مثلما فعل الألماني ميز فان دير روهي الذي وضع تصاميم لناطحات السحاب المكوّنة من الزجاج والفولاذ. ولأن التصميمات التي وضعها تتميز بالارتفاع العمودي، استعمل المهندس مادة صلبة كالفولاذ وأخرى شفافة كالزجاج، ليشير إلى أن الارتقاء العمودي يلزمه شفافية يمثلها الزجاج وإرادة صلبة يمثلها الفولاذ.