تمرُّ صناعة آلة العود في العراق بأسوأ حالاتها، فالبؤس والفقر يخيّمان على ورش صناعة آلة العود التي تستوطن حارات شارع الرشيد، أحد أقدم وأهم شوارع العاصمة العراقيّة بغداد. وأصحاب هذه الورش يكاد اليأس يسيطر عليهم بعد أن أخذت تعقم المدينة التي كانت تنجب عازفين "يجعلون العود يتكلم"، بحسب ما يصطلح سكّان العراق على العازف الجيّد، عن إنجاب عازفين ومقتني أعواد محليّة الصنع.
ويمثلّ علي العوّاد، الذي يمتلك ورشة لصناعة العود في حارة جديد حسن باشا، أحد أبرز هذه الوجوه اليائسة، إذ لم تعد ورشته تدرّ عليه مالاً يكفي لسدّ حاجاته اليوميّة "من الصعب على الإنسان أن يعيش حالة الاحتضار، ولكن الأصعب هو عيشه حالة احتضار تاريخه ومهنته"، يقول لـ"العربي الجديد".
والعود العراقي لطالما كان مميزاً، وكان الكثير من الفنانين العرب يمتلكون عوداً خرج من ورش وحارات بغداد القديمة، منهم فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وعبادي الجوهر، إضافة طبعاً إلى كاظم الساهر ونصير شمّة، وكان الصانع محمّد فاضل، أحّد أبرز وجوه صناعة هذه الآلة التي تبثّ الشجن حال تحريك أوتارها.
عمر، ابن الصانع الشهير محمّد فاضل، والذي يمتلك ورشة لصناعة العود، قال إن "من يجيد العزف على آلة العود يتذوق طعماً خاصاً بصوت عود محمد فاضل".
وإلى اليوم لم يساوم صنّاع العود في العراق على جودة صناعتهم، فكلّ تفصيل في العود تتم صناعته يدوياً، وأشار عمر محمد فاضل، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن "العود في العراق لا يزال يصنع بشكل يدوي، ابتداءً من القصعة (الصندوق الصوتي)، وانتهاءً بأعمال الصبغ والتلميع"، موضحاً أن "صناعة العود الواحد تستغرق من شهر إلى أكثر من ثلاثة أشهر"، وورشة محمد فاضل "بذروتها لم تنتج أكثر من مئة عود في السنة، في حين بعض الورش في تركيا وسورية تنتج هذا الرقم خلال أسبوعين أو ثلاثة، وهو الأمر الذي يؤثر على جودة العود".
ويباع العود العراقي اليوم في السوق المحلية بأسعار تبدأ من 600 دولار أميركي للعود التعليمي، وتصل هذه الأسعار إلى حوالي 2000 دولار للعود ذي الجودة العالية، في حين تبدأ أسعار العود التركي بـ85 دولاراً أميركياً، ولا يتجاوز العود ذو الجودة الجيدة سعر الـ200 دولار.
"لا زلنا نرى في مهرجانات عربية وعالمية الهيبة العظيمة للعود العراقي، إذ يتلهف الحاضرون بعد انتهاء الحفل لرؤية العود وأبعاده ودقة صناعته والدندنة عليه قليلاً"، يقول عازف العود الصولو، مصطفى زاير، في حديث لـ"العربي الجديد"، قبل أن يضيف "العروض لشراء الآلة تنهال علينا عادة خارج العراق. أنا شخصياً لا أتاجر بالآلات، ولكن الكثير من الزملاء والأصدقاء يذهب بعوده الخاص، بالإضافة إلى عودين أو أكثر لبيعها في المدن المستضيفة للمهرجانات".
لكن زاير، الذي يعدُّ اليوم أحد أبرز عازفي العود الشباب في العراق، والذي بدا مزهواً بالحديث عن صناعة العود العراقي ومواصفاته، قال إن "عدد صناع العود بدأ بالتقلص في العراق نظراً لتقلص عدد العازفين المحترفين والهواة"، لافتاً إلى أن "عدد العازفين الصولو المتواجدين في العراق لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة".
لكن هناك أسباباً أخرى قد تؤدي إلى احتضار معلن لصناعة هذه الآلة التي أخرج العراق عدداً من العازفين عليها قد لا يكرّرهم التاريخ، بدءاً من الأخوين منير وجميل بشير، مروراً بعلي الإمام، وليس انتهاء بنصير شمّة والجيل الجديد المتمثل بسامي نسيم ومصطفى زاير.
ويشير عمر محمد فاضل، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى خطوة في سبعينيات القرن الماضي اتخذتها الدولة العراقيّة أدّت إلى بداية الانهيار، وقال إن "الدولة العراقية متمثلة بوزارة الثقافة دمرت بشكل أو بآخر هذه الصناعة التي تلاقي إقبالاً عالمياً من خلال ورشة الصناعة التي أسستها دائرة الفنون الموسيقية في سبعينيات القرن الماضي، وهو ما استمر بالانحدار حتى باتت هذه الورشة لا تصنع سوى عوداً أو اثنين في السنة، على الرغم من توظيفها لأكثر من 14 صانعاً".
ويتهم عمر الورشة بالتسبب بمقتل والده في نهاية القرن الماضي "لقد عينت الدائرة والدي وهو في عمر التسعين بصفة خبير، وقد كانت الوزارة تحضر والدي يومياً للورشة لتسويق أعوادها، حيث بقيت الرغبة باقتناء عود محمد فاضل بشكل خاص، وهو ما أدى إلى موته بعد أشهر قليلة بسبب التعب والإرهاق الذي أصابه".
وإذا كان واقع السبعينيات قد أدى إلى موت محمد فاضل، بحسب ما يقول ابنه، فإن الوضع اليوم قد يتسبّب بموت الصناعة كلّها، حيث الثقافة ليس لها حتّى هامش ضئيل في اهتمام الحكومات المتعاقبة بعد احتلال بغداد في نيسان/ إبريل عام 2003، وهو الأمر الذي يؤدي إلى إهمال كل شيء له علاقة بالتاريخ الثقافي للبلاد.
ولم تعد آلة العود المصنوعة في الداخل تلقى اهتماماً لتسويقها بالرغم من الطلب عليها، في المقابل، فإن الآلة المستوردة قد أخذت طريقها إلى البلاد، من ناحية الشكل والسعر. وبسبب إدخال المكننة على صناعة آلة العود في تركيا مثلاً، فإن العديد من هواة عزف العود في العراق اليوم يميلون إلى شراء العود المستورد، فهو بالنسبة لهم أجمل شكلاً من حيث الألوان والخطوط المستقيمة المطبوعة على ظهره، إضافة إلى أنه أصغر حجماً وأقلّ سعراً.
في ظل هذا الوضع، يقول علي العواد لـ"العربي الجديد"، وهو محني الرأس على آلة يقوم بصنعها، إن "الورش جميعها آيلة للسقوط، والأعواد المستوردة تغزو العراق دون رقيب أو حسيب، والدولة لم تتخذ أي خطوة للحفاظ على هذه الصناعة أو دعمها".
اقــرأ أيضاً
ويمثلّ علي العوّاد، الذي يمتلك ورشة لصناعة العود في حارة جديد حسن باشا، أحد أبرز هذه الوجوه اليائسة، إذ لم تعد ورشته تدرّ عليه مالاً يكفي لسدّ حاجاته اليوميّة "من الصعب على الإنسان أن يعيش حالة الاحتضار، ولكن الأصعب هو عيشه حالة احتضار تاريخه ومهنته"، يقول لـ"العربي الجديد".
والعود العراقي لطالما كان مميزاً، وكان الكثير من الفنانين العرب يمتلكون عوداً خرج من ورش وحارات بغداد القديمة، منهم فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وعبادي الجوهر، إضافة طبعاً إلى كاظم الساهر ونصير شمّة، وكان الصانع محمّد فاضل، أحّد أبرز وجوه صناعة هذه الآلة التي تبثّ الشجن حال تحريك أوتارها.
عمر، ابن الصانع الشهير محمّد فاضل، والذي يمتلك ورشة لصناعة العود، قال إن "من يجيد العزف على آلة العود يتذوق طعماً خاصاً بصوت عود محمد فاضل".
وإلى اليوم لم يساوم صنّاع العود في العراق على جودة صناعتهم، فكلّ تفصيل في العود تتم صناعته يدوياً، وأشار عمر محمد فاضل، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن "العود في العراق لا يزال يصنع بشكل يدوي، ابتداءً من القصعة (الصندوق الصوتي)، وانتهاءً بأعمال الصبغ والتلميع"، موضحاً أن "صناعة العود الواحد تستغرق من شهر إلى أكثر من ثلاثة أشهر"، وورشة محمد فاضل "بذروتها لم تنتج أكثر من مئة عود في السنة، في حين بعض الورش في تركيا وسورية تنتج هذا الرقم خلال أسبوعين أو ثلاثة، وهو الأمر الذي يؤثر على جودة العود".
ويباع العود العراقي اليوم في السوق المحلية بأسعار تبدأ من 600 دولار أميركي للعود التعليمي، وتصل هذه الأسعار إلى حوالي 2000 دولار للعود ذي الجودة العالية، في حين تبدأ أسعار العود التركي بـ85 دولاراً أميركياً، ولا يتجاوز العود ذو الجودة الجيدة سعر الـ200 دولار.
"لا زلنا نرى في مهرجانات عربية وعالمية الهيبة العظيمة للعود العراقي، إذ يتلهف الحاضرون بعد انتهاء الحفل لرؤية العود وأبعاده ودقة صناعته والدندنة عليه قليلاً"، يقول عازف العود الصولو، مصطفى زاير، في حديث لـ"العربي الجديد"، قبل أن يضيف "العروض لشراء الآلة تنهال علينا عادة خارج العراق. أنا شخصياً لا أتاجر بالآلات، ولكن الكثير من الزملاء والأصدقاء يذهب بعوده الخاص، بالإضافة إلى عودين أو أكثر لبيعها في المدن المستضيفة للمهرجانات".
لكن زاير، الذي يعدُّ اليوم أحد أبرز عازفي العود الشباب في العراق، والذي بدا مزهواً بالحديث عن صناعة العود العراقي ومواصفاته، قال إن "عدد صناع العود بدأ بالتقلص في العراق نظراً لتقلص عدد العازفين المحترفين والهواة"، لافتاً إلى أن "عدد العازفين الصولو المتواجدين في العراق لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة".
لكن هناك أسباباً أخرى قد تؤدي إلى احتضار معلن لصناعة هذه الآلة التي أخرج العراق عدداً من العازفين عليها قد لا يكرّرهم التاريخ، بدءاً من الأخوين منير وجميل بشير، مروراً بعلي الإمام، وليس انتهاء بنصير شمّة والجيل الجديد المتمثل بسامي نسيم ومصطفى زاير.
ويشير عمر محمد فاضل، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى خطوة في سبعينيات القرن الماضي اتخذتها الدولة العراقيّة أدّت إلى بداية الانهيار، وقال إن "الدولة العراقية متمثلة بوزارة الثقافة دمرت بشكل أو بآخر هذه الصناعة التي تلاقي إقبالاً عالمياً من خلال ورشة الصناعة التي أسستها دائرة الفنون الموسيقية في سبعينيات القرن الماضي، وهو ما استمر بالانحدار حتى باتت هذه الورشة لا تصنع سوى عوداً أو اثنين في السنة، على الرغم من توظيفها لأكثر من 14 صانعاً".
ويتهم عمر الورشة بالتسبب بمقتل والده في نهاية القرن الماضي "لقد عينت الدائرة والدي وهو في عمر التسعين بصفة خبير، وقد كانت الوزارة تحضر والدي يومياً للورشة لتسويق أعوادها، حيث بقيت الرغبة باقتناء عود محمد فاضل بشكل خاص، وهو ما أدى إلى موته بعد أشهر قليلة بسبب التعب والإرهاق الذي أصابه".
وإذا كان واقع السبعينيات قد أدى إلى موت محمد فاضل، بحسب ما يقول ابنه، فإن الوضع اليوم قد يتسبّب بموت الصناعة كلّها، حيث الثقافة ليس لها حتّى هامش ضئيل في اهتمام الحكومات المتعاقبة بعد احتلال بغداد في نيسان/ إبريل عام 2003، وهو الأمر الذي يؤدي إلى إهمال كل شيء له علاقة بالتاريخ الثقافي للبلاد.
ولم تعد آلة العود المصنوعة في الداخل تلقى اهتماماً لتسويقها بالرغم من الطلب عليها، في المقابل، فإن الآلة المستوردة قد أخذت طريقها إلى البلاد، من ناحية الشكل والسعر. وبسبب إدخال المكننة على صناعة آلة العود في تركيا مثلاً، فإن العديد من هواة عزف العود في العراق اليوم يميلون إلى شراء العود المستورد، فهو بالنسبة لهم أجمل شكلاً من حيث الألوان والخطوط المستقيمة المطبوعة على ظهره، إضافة إلى أنه أصغر حجماً وأقلّ سعراً.
في ظل هذا الوضع، يقول علي العواد لـ"العربي الجديد"، وهو محني الرأس على آلة يقوم بصنعها، إن "الورش جميعها آيلة للسقوط، والأعواد المستوردة تغزو العراق دون رقيب أو حسيب، والدولة لم تتخذ أي خطوة للحفاظ على هذه الصناعة أو دعمها".