لا يكاد يمر يوم من دون أن تقوم قوات الاحتلال الإسرائيلي، من شرطة وبلدية في القدس المحتلة ومن مختلف أذرع الاحتلال، باقتحام بلدة العيسوية الواقعة إلى الشمال الشرقي من مدينة القدس المحتلة، على بُعد بضعة كيلومترات قليلة فقط، وتنفيذ عقوبات وتنكيلاً بالأهالي، في مشهد يسلط الضوء على انتهاكات الاحتلال بحق المقدسيين.
آخر تلك الاقتحامات ما شهدته بلدة العيسوية يوم الخميس الماضي، بعد وقفة احتجاجية ضد ما يقول الأهالي إنها عمليات تنكيل يومية تقع بحقهم. لكن قوات الاحتلال قمعت تلك الوقفة وقتلت بدم بارد الأسير المحرر محمد سمير عبيد (20 عاماً)، وجرحت نحو مائة فلسطيني في مواجهات وصفت بالأعنف منذ سنوات، تلتها حملة اعتقالات واسعة طاولت أكثر من عشرين شاباً.
هروب إلى بلدة التلال الثلاث
بلدة العيسوية، البالغ عدد سكانها أكثر من 30 ألف نسمة، تقع بين ثلاث تلال، أشهرها "رأس السلم" حيث معسكر الرادار (إذاعة الجيش الإسرائيلي، والجامعة العبرية) من الجهة الجنوبية الشرقية، ومن الغرب مستشفى "هداسا"، ومستوطنة التلة الفرنسية المعروفة بـ"كرم الويز"، وهذه المنطقة محاصرة بشكل طوق، و"رأس خميس" من أراضي بلدة شعفاط المجاورة. كذلك يحدها من الجهة الشرقية مخيم شعفاط، وضاحية السلام "قرية عناتا" من الجهة الشمالية الشرقية. أما شرقاً فشارع مستوطنة "معاليه أدوميم" الموازي لجدار الفصل العنصري الذي يعزل أكثر من 80 في المائة من أراضي القرية، ومعسكر الجيش حيث منطقة "المكثاة".
وإضافة إلى سكانها الأصليين، يقطن العيسوية عدد كبير من المقدسيين الذين دفعت بهم أزمة السكن الخانقة التي يعانون منها للانتقال إليها، ومنهم من كان يقطن في مناطق تتبع إدارياً للضفة الغربية، فاضطروا إلى تركها بسبب ملاحقتهم من قبل طواقم "مؤسسة التأمين الوطني" الإسرائيلية. وكان بعض هؤلاء المقدسيين يسكن في مناطق الضفة الغربية القريبة من القدس، بسبب أجور السكن المرتفعة في القدس، والتي سجلت في السنة الأخيرة ارتفاعاً إضافياً، إذ وصلت تكلفة المسكن الواحد إلى نحو 1200 دولار شهرياً في متوسط معدلاتها، بينما تجاوزت هذا المبلغ إلى حدها الأعلى والأقصى لتصل إلى ألفي دولار شهرياً، لكنهم عادوا واستقروا في العيسوية بسبب ملاحقة "التأمين الوطني" لهم. والعيسوية، التي تعاني أصلاً من أزمة سكن خانقة لمواطنيها الأصليين، تحوّلت مكاناً مفضلاً لهذه العائلات المقدسية التي استقرت في البلدة، بالنظر إلى أجرة السكن المتدنية مقارنة مع غيرها من أحياء مثل بيت حنينا وشعفاط المقدسيين.
هدم وتوسع استيطاني
وشهدت العيسوية، ولا تزال، حركة واسعة من العمران لحل ضائقة أبنائها. وكان نصيبها من عمليات الهدم الأكبر من بين قرى وبلدات القدس وأحيائها المختلفة، كما يقول عضو لجنة المتابعة في العيسوية محمد أبو الحمص، لـ"العربي الجديد". ويشير أبو الحمص إلى وقوع عمليات هدم واسعة طاولت عشرات المساكن والمنشآت الزراعية والصناعية واقتلاع الأشجار وتجريف ما تبقّى من أراضي البلدة، فيما صودر أكثر من 740 دونماً من أراضي البلدة وقرية الطور المجاورة لصالح مشروع ما يسمى بـ"الحديقة الوطنية"، والذي يصفه أبو الحمص بأنه مشروع "استعماري استيطاني سيخدم مخططات التهويد الإسرائيلية لمنطقة واسعة حول القدس". ويرتبط مشروع "الحديقة الوطنية" بمشروع استيطاني أكثر خطورة يرمي إلى ربط مستوطنة "معاليه أدوميم"، المقامة على أراضي القدس والتي يقطنها أكثر من 40 ألف مستوطن، بمركز المدينة، من خلال بناء آلاف الوحدات الاستيطانية على أكثر من 12 ألف دونم من أراضي العيسوية وقرى الطور والزعيم والعيزرية.
ووفق أبو الحمص، فإن سلطات الاحتلال سلّمت، في غضون أسبوعين فقط، أكثر من 40 إخطاراً بهدم منازل ومنشآت لمواطنين في العيسوية، بينما تواصل سلطات الاحتلال بصورة شبه يومية هدم منازل المواطنين، عدا عن اقتلاع عشرات الأشجار وتجريف عشرات الدونمات من الأراضي الزراعية. وكانت سلطات الاحتلال قد صادرت، قبل نحو عشر سنوات، مئات الدونمات من أراضي العيسوية في حدودها الشرقية، وأقامت عليها معسكرات للجيش، أشهرها "معسكر الكتيبة" التابع لحرس الحدود الإسرائيلي، وعهد لهذه الكتيبة تأمين الحماية للمستوطنين في مستوطنات شرق القدس، خصوصاً "معاليه أدوميم"، ومطاردة الفلسطينيين من أبناء الضفة الغربية الذين يحاولون الوصول إلى أماكن عمل في القدس وإسرائيل، بالتسلل عبر جدار الفصل العنصري المقام في تلك المنطقة، إذ يلقى بعض العمال مصيراً مأسوياً من القتل والاعتقال والاعتداء العنيف من أفراد تلك الكتيبة المعروفين بقسوتهم ووحشيتهم.
ويقول هاني العيساوي، وهو عضو آخر في لجنة المتابعة لشؤون العيسوية، لـ"العربي الجديد"، إن "ما تتعرض له العيسوية، من عمليات هدم ومصادرة لأراضيها ومنع البناء الفلسطيني عليها، يندرج في إطار سياسة إسرائيلية واضحة الأهداف والمعالم تقوم على مكافحة البناء الفلسطيني في القدس بمجملها". ويشير العيساوي إلى أن هذه السياسة لا تقتصر فقط على هدم المنازل، بل تتعداها إلى فرض قيود صارمة على البناء، ورسوم مالية عالية، تصل إلى أكثر من 30 ألف دولار، للرخصة الواحدة، وقد يمتد الحصول عليها لأكثر من خمس سنوات، بينما تفرض مئات آلاف الشواقل (عملة إسرائيلية) كغرامات على من تصفُهم بلدية الاحتلال بمخالفي أنظمتها وقوانينها.
سياسة لتشريد الأهالي
يُقدّر مسؤولون فلسطينيون وخبراء في مجال الاستيطان عدد المنازل الفلسطينية المهددة بالهدم في القدس الشرقية المحتلة بأكثر من عشرين ألف منزل، ولبلدة العيسوية النصيب الأكبر من عدد المنازل المهددة بالهدم، علماً بأن سياسة الهدم هذه أفضت في غضون السنوات العشر الماضية إلى تشريد آلاف الفلسطينيين وجعلهم بلا مأوى، بمن فيهم عشرات العائلات من أبناء القرية الذين وجدوا أنفسهم في العراء، كما يقول العيساوي. وفي مقابل هذه السياسة الإسرائيلية، والتي تُعدّ العيسوية واحدة من ضحاياها، شيدت سلطات الاحتلال نحو 60 ألف وحدة استيطانية منذ احتلالها القدس في عام 1967، بينما تخطط لبناء ذات العدد من الوحدات حتى نهاية العام 2025، وصولاً إلى أكثر من مليون مستوطن سيقطنون في كامل القدس، وهو مشروع كان طرحه رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل أرييل شارون حين كان وزيراً لجيش الاحتلال، وعُرف في حينه بـ"مشروع النجوم".
وأكدت جمعية حقوق المواطن (منظمة إسرائيلية تنشط في مجال حقوق الفلسطينيين)، في تقارير دورية لها، أن سياسة التخطيط والبناء الإسرائيلية حيال سكان القدس الفلسطينيين، لا تسمح بالبناء إلا على 14 في المائة من مساحة القدس الشرقيّة. وقالت "تلك المساحة تعادل ما نسبته 7.8 في المائة من كل مساحة القدس، وقد جرى استغلال غالبيّة هذه المساحة للبناء (نِسَب البناء المسموح بها في الأحياء الفلسطينيّة تصل غالباً إلى ما بين 25 و50 في المائة، مقابل ما بين 75 و125 في المائة في الأحياء اليهوديّة)". ولفتت المنظمة الإسرائيلية إلى أنه ومنذ عام 1967، صودر ثلث أراضي الفلسطينيّين في القدس، وبُنيت عليها آلاف الشقق للمستوطنين، بينما 35 في المائة من المساحات التي خضعت للتخطيط في الأحياء الفلسطينيّة تندرج تحت التعريف "مساحات طبيعيّة مفتوحة"، والتي لا يُسمح بالبناء عليها. كما أن الخرائط الهيكلية للأحياء الفلسطينية لا تشمل معظم المساحات التي تقع تحت ملكية السكان.
هذا الواقع الذي تعيشه العيسوية، حوّلها على مدى السنوات الماضية، خصوصاً في الانتفاضة الثانية (عام 2000)، إلى واحدة من أكثر بؤر المواجهة الساخنة مع قوات الاحتلال، إذ ارتقى من أبنائها شهداء، وبرز من أبنائها الأسرى عائلة الأسيرة المحررة شيرين العيساوي، حيث قدمت العائلة مطلع التسعينيات شهيداً، وكان الأسير الأبرز حضوراً من أبناء العيسوية سامر وشقيقه مدحت، وسبقهما إلى ذلك والدهما المسن. هذا الواقع جعل بلدة العيسوية في صلب مخططات الاحتلال، التي تكشف كل يوم عن مخططات مبيّتة ضد هذه البلدة المحاصرة والمعزولة بين مستوطنات ومعسكرات جيش، وشبكة طرق تخدم المستوطنين. ولعل أخطر هذه المخططات ما يقال عن اعتزام سلطات الاحتلال، في غضون الأشهر القليلة المقبلة، إغلاق المدخل الغربي الرئيس للبلدة، وتحويل مسار الانتقال منها وإليها إلى حاجز عسكري يتاخم موقع كتيبة حرس الحدود شرق العيسوية ليربط البلدة بمخيم شعفاط، وحي الزعيم، وبلدة عناتا، وكلها مناطق باتت محاصرة بجدار الفصل العنصري.