لم يعد دهم قوات الاحتلال الإسرائيلي لبلدة العيسوية شمال شرق القدس المحتلة، وهي واحدة من أكثر البلدات الفلسطينية القريبة من القدس العتيقة والمتاخمة لها، حدثاً استثنائياً أو موسمياً، بل أصبح أمراً يومياً تصاعدت وتيرته منذ الهبة الشعبية الحالية، التي اندلعت في الأراضي الفلسطينية منذ مطلع أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي.
تقع قرية العيسوية بين تلال ثلاث، أشهرها "رأس السلم" حيث معسكر الرادار (إذاعة الجيش الإسرائيلي، والجامعة العبرية) من الجهة الجنوبية الشرقية، ومن الغرب مستشفى "هداسا"، ومستوطنة التلة الفرنسية المعروفة بـ"كرم الويز"، وهذه المنطقة محاصرة بشكل طوق، و"رأس خميس" من أراضي بلدة شعفاط المجاورة. كما يحدها من الجهة الشمالية الغربية مخيم شعفاط، وضاحية السلام "قرية عناتا" من الجهة الشمالية الشرقية، أما شرقاً فشارع مستوطنة المرتفعات الحمراء "معاليه أدوميم" الموازي لجدار الفصل العنصري الذي يعزل أكثر من 80 في المائة من أراضي القرية، ومعسكر الجيش حيث منطقة "المكثاة".
العيسوية ملجأ المقدسيين
يقطن قرية العيسوية نحو ثلاثين ألف فلسطيني جلّهم من أبناء القرية وجزء كبير أيضاً من مقدسيين دفعت بهم أزمة السكن الخانقة التي يعانونها إلى الانتقال إليها، ومنهم من كانوا يقطنون في مناطق تتبع إدارياً للضفة الغربية، اضطروا إلى تركها بسبب ملاحقتهم من قبل طواقم مؤسسة التأمين الوطني الإسرائيلية.
وكان بعض أولئك المقدسيين يسكنون في مناطق الضفة الغربية القريبة من القدس، بسبب أجور السكن المرتفعة في القدس، والتي سجلت في السنة الأخيرة ارتفاعاً إضافياً، إذ وصلت أجرة المسكن الواحد لحوالي 1200 دولار شهرياً في متوسط معدلاتها، بينما تجاوزت هذا المبلغ إلى حدها الأعلى والأقصى لتصل إلى ألفي دولار شهرياً، لكنهم عادوا واستقروا في العيسوية بسبب ملاحقة "التأمين الوطني" لهم.
والعيسوية التي تعاني أصلاً من أزمة سكن خانقة لمواطنيها الأصليين، تحوّلت مكاناً مفضلاً لهذه العائلات المقدسية التي استقرت في القرية، بالنظر إلى أجرة السكن المتدنية بالنسبة لغيرها من أحياء مثل بيت حنينا وشعفاط المقدسيين.
عمليات هدم لتوسيع الاستيطان
شهدت القرية ولا تزال، حركة واسعة من العمران لحل ضائقة أبنائها، وكان نصيبها من عمليات الهدم الأكبر من بين قرى وبلدات القدس وأحيائها المختلفة، كما يقول عضو لجنة المتابعة في العيسوية محمد أبو الحمص لـ"العربي الجديد". ويشير أبو الحمص إلى حصول عمليات هدم واسعة طاولت عشرات المساكن والمنشآت الزراعية والصناعية واقتلاع الأشجار وتجريف ما تبقى من أراضي القرية، فيما تتهدد المصادرة أكثر من 740 دونماً من أراضي العيسوية، وقرية الطور المجاورة لصالح مشروع ما يسمى بـ"الحديقة الوطنية"، والذي يصفه أبو الحمص بأنه مشروع "استعماري استيطاني سيخدم مخططات التهويد الإسرائيلية لمنطقة واسعة حول القدس".
ويرتبط مشروع "الحديقة الوطنية" بمشروع استيطاني أكثر خطورة يرمي إلى ربط مستوطنة "معاليه أدوميم" المقامة على أراضي القدس، والتي يقطنها أكثر من 30 ألف مستوطن، بمركز المدينة المقدسة، من خلال بناء آلاف الوحدات الاستيطانية على أكثر من 12 ألف دونم من أراضي العيسوية وقرى الطور والزعيم والعيزرية.
ووفق أبو الحمص، فإن سلطات الاحتلال سلّمت في غضون أسبوعين فقط أكثر من عشرين إخطاراً بهدم منازل ومنشآت مواطنين في القرية، بينما هدمت سلطات الاحتلال في ذات الفترة 15 منزلاً ومنشأة، عدا عن اقتلاع عشرات الأشجار وتجريف عشرات الدونمات من الأراضي الزراعية.
وكانت سلطات الاحتلال قد صادرت قبل نحو عشر سنوات مئات الدونمات من أراضي القرية في حدودها الشرقية، وأقامت عليها معسكرات للجيش، أشهرها "معسكر الكتيبة" التابع لحرس الحدود الإسرائيلي. وعهد لهذه الكتيبة تأمين الحماية للمستوطنين في مستوطنات شرق القدس، خصوصاً "معاليه أدوميم"، ومطاردة الفلسطينيين أبناء الضفة الغربية الذين يحاولون الوصول إلى أماكن عمل في القدس وإسرائيل، عبر التسلل عن جدار الفصل العنصري المقام في تلك المنطقة، إذ يلقى بعض العمال مصيراً مأسوياً من القتل والاعتقال والاعتداء العنيف من أفراد تلك الكتيبة المعروفون بقسوتهم ووحشيتهم.
اقرأ أيضاً: "غيتوات" القدس: الاحتلال يحوّل أحياء الفلسطينيين إلى سجون
تقصير فلسطيني رسمي
يرى محافظ القدس ووزيرها عدنان الحسيني، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن ما تتعرض له قرية العيسوية من عمليات هدم ومصادرة لأراضيها ومنع البناء الفلسطيني عليها، يندرج في إطار سياسة إسرائيلية واضحة الأهداف والمعالم تقوم على مكافحة البناء الفلسطيني في القدس بمجملها.
ويوضح الحسيني أن هذه السياسة لا تقتصر فقط على هدم المنازل، بل تتعداها إلى فرض قيود صارمة على البناء، ورسوم مالية عالية تصل إلى أكثر من 30 ألف دولار للرخصة الواحدة، وقد يمتد الحصول عليها لأكثر من خمس سنوات، بينما تفرض مئات آلاف الشواقل (عملة إسرائيلية) كغرامات على من تصفُهم بلدية الاحتلال بمخالفي أنظمتها وقوانينها.
ويُقدّر محافظ القدس عدد المنازل الفلسطينية المهددة بالهدم في "القدس الشرقية" المحتلة بأكثر من عشرين ألف منزل، علماً بأن سياسة الهدم هذه أفضت في غضون السنوات العشر الماضية إلى تشريد آلاف الفلسطينيين وجعلهم بلا مأوى. ويعترف الحسيني بمحدودية الدعم الرسمي الفلسطيني المُقدّم لمواطني القدس، مؤكداً أن وزارته تعمل بإمكانات شحيحة جداً وبموارد مالية لا تفي بالاحتياجات المتعاظمة لمواطني المدينة المقدسة الذين يواجهون أبشع احتلال عرفه تاريخ البشرية.
تضييق على البناء الفلسطيني
أكدت جمعية حقوق المواطن (منظمة إسرائيلية تنشط في مجال حقوق الفلسطينيين)، في بيان لها، أن سياسة التخطيط والبناء الإسرائيلية تجاه سكان القدس الفلسطينيين، لا تسمح بالبناء إلا على 14 في المائة من مساحة "القدس الشرقيّة". تلك المساحة تعادل ما نسبته 7.8 في المائة من كل مساحة القدس، وقد جرى استغلال غالبيّة هذه المساحة للبناء (نِسَب البناء المسموح بها في الأحياء الفلسطينيّة تصل غالباً إلى ما بين 25 و50 في المائة، مقابل ما بين 75 و125 في المائة في الأحياء اليهوديّة).
ولفتت المنظمة الإسرائيلية إلى أنه ومنذ العام 1967، صودر ثلث أراضي الفلسطينيّين في القدس، وبُنيت عليها آلاف الشقق للسكّان اليهود؛ بينما 35 في المائة من المساحات التي خضعت للتخطيط في الأحياء الفلسطينيّة، تندرج تحت التعريف "مساحات طبيعيّة مفتوحة"، والتي لا يُسمح بالبناء عليها، كما أن الخرائط الهيكلية للأحياء الفلسطينية لا تشمل معظم المساحات التي تقع تحت ملكية السكان.
في مقابل هذه السياسة الإسرائيلية والتي تُعدّ العيسوية واحدة من ضحاياها، شيدت سلطات الاحتلال نحو 60 ألف وحدة استيطانية منذ احتلالها للقدس عام 1967، بينما تخطط لبناء ذات العدد من الوحدات السكنية حتى نهاية العام 2025، وصولاً إلى أكثر من مليون مستوطن سيقطنون في كامل القدس، وهو مشروع كان طرحه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون حين كان وزيراً لجيش الاحتلال، وعُرف في حينه بـ"مشروع النجوم".
اقرأ أيضاً: حواجز الضفة الغربية: غيتوهات من صنع الاحتلال