الغربال والتطبيع

27 أكتوبر 2018

كلود لولوش.. مخرج سينمائي فرنسي داعم لإسرائيل (13/10/2018/Getty)

+ الخط -
كما كان متوقعاً، أثار الإعلان عن تكريم المخرج الفرنسي، كلود لولوش، صاحب فيلم "رجل وامرأة"، الحاصل على أوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 1966، وعلى سعفة كان الذهبية في العام نفسه، في مهرجان القاهرة السينمائي لدورة هذا العام (2018)، لغطا كثيرا بين الأوساط الثقافية والسينمائية المصرية والعربية. فلولوش، المنشغل بصناعة الأفلام والسينما، مخرجا ومنتجا وكاتب سيناريو، منذ أكثر من ستين عاما، هو أيضا صاحب موقف سياسي، أعلن عنه أكثر من مرة، إذ زار لولوش "إسرائيل" أكثر من ست زيارات معلنة، لم تكن كلها في إطار العمل السينمائي. وأعلن مرة أن "إسرائيل" هي بلده الثاني، كما أعلن تأييده سياساتها مراتٍ، من دون أن يتحدث ولو عرضا عن حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه المحتلة، بل تجاهل تماما هذا الحق.
الرجل إذن متورّط سياسياً في دعم كيان محتل، كان سببا مباشرا في مصائب شعوب بأكملها؛ وفي تكريمه (المخرج) في مهرجان سينمائي دولي في عاصمة عربية (القاهرة) استهانة مباشرة بتضحيات الفلسطينيين والعرب، المصريين في المقدمة، وفيه أيضا إعلانٌ صريحٌ عن التخلي عن تاريخ طويل من مناهضة التطبيع، ميّزت المصريين بعد اتفاقية كامب ديفيد. وآخر ما تريده الثقافة المصرية، في الظرف العربي الحالي، هو الاتهام بالتطبيع مع إسرائيل، ولهذا فإن التراجع عن التكريم، كما أعلن، جاء خطوة عقلانية تمنع عن مهرجان القاهرة السينمائي وصمة مشبوهة.
ولكن هذا الحدث أثار، من جديد، سؤال العلاقة بين الفن والسياسة، وهل يجوز الفصل بينهما، أم أن الرابط يجب أن يبقى، كي لا تساهم الثقافة والفن في تمييع القضايا والقيم الكبيرة، خصوصا في أوضاع ملتهبة سياسياً، كأوضاع بلادنا العربية، وقضايانا المتراكمة منذ عقود طويلة، وغير المحلولة حتى اللحظة؟ فإذا كان سؤالٌ كهذا قد طرح، منذ بدء اتفاقيات السلام بين بعض الأنظمة العربية وإسرائيل، وكان لصالح التوأمة بين الإبداع والموقف السياسي، في محاولاتٍ لمنع اتفاقيات السلام الحكومية من أن تتحوّل إلى تطبيع شعبي وثقافي، فإن ما تمخض عن الربيع العربي جعل السؤال نفسه يأخذ أبعادا جديدة، بحيث لم يعد الموقف من إسرائيل المقياس الوحيد لأخلاق المبدع أو المثقف وإنسانيته، صار الموقف من التغيير والوقوف مع حركة الشعوب ضد الأنظمة المقياس الأول، خصوصا مع الإجرام منقطع النظير الذي أبدته هذه الأنظمة، واستخدمته ضد شعوبها المطالبة بأبسط حقوقها الإنسانية والمواطنية، فكيف يمكن ترويج مبدعٍ يعلن تأييده علنا نظاما قتل وشرّد من شعبه، ودمر من مدنه، ما يتفوّق على ما يمكن أن يفعله أي نظام أو كيان محتل؟ وكيف يمكن التسامح مع مثقفٍ ومبدع يتجاهل الدماء في بلده، ويبرّر وجودها باعتبار أصحابها، أهل بلده، إرهابيين. ولا مانع من سحق هذا الإرهاب المفترض وقتله؟ ولا يتعارض هذا الأمر أيضا مع مثقفين ومبدعين يؤيدون إرهابيين حقيقيين (تنظيم داعش وجبهة النصرة) ومن يشبههما.. كتبت شاعرة سورية، ذات يوم، قصيدة في مدح ابن لادن، لا عجب إذاً أن يكتب آخرون في مديح مجرمين يقفون في صف آخر.
لعل السؤال الأهم هنا: كيف يمكن الوثوق بمصداقية مبدع أو مثقف، يؤيد أي نظام، مهما كان شكل هذا النظام، فالأنظمة التي تطلب التأييد قمعية، بكل حال، الحكومات الديموقراطية غير معنيةٍ بشيء كهذا، هي تعتبر نفسها موظفةً، تصيب وتخطئ وتحاسب بناءً على ما تقدّمه في أثناء فترة حكمها. تدرك الأنظمة القمعية والاستبدادية أنها بالعمق غير محبوبة، فتطالب بتأييد علنيٍ من شعوبها لتبييض صورتها، مسقطةً في هذه الهاوية مثقفين ومبدعين عديدين، فكلما كبر حجم التأييد لها من هذه الشريحة، ابيضّت صورتها أكثر! يدرك المثقف هذا جيدا، أو هذا ما يجب أن يكون. ومع ذلك، لا يتورع عن تأييده العلني الطغاة، كيف يمكن الوثوق بأي منتج إبداعي أو فكري لمن يؤيد طاغيةً، على الرغم من إدراكه ما يفعله هذا الطاغية؟
إذا كان السؤال حيال موقف المبدع من إسرائيل أخلاقيا، فإن السؤال عن الموقف من طغيان الأنظمة العربية وغيرها قد يكون أكثر إلحاحا وأهمية، فعلى الرغم من كل ما فعلته وتفعله، إسرائيل دولة عدوّ أولا، ولم تصل إلى ربع ما ارتكبته الأنظمة ضد شعوبها من الإجرام. وعليه، أليس السؤال واجبا الآن: كيف يتم تكريم مبدعين يعلنون تأييدهم العلني والواضح الأنظمة التي تفتك بشعوبها وتشرّدها، في مهرجانات فنية وثقافية، ويتم الاحتفاء بهم بوصفهم قيماً وأيقونات ثقافية وفنية كبيرة؟ ألا يبدو هذا تطبيعا أيضا مع الإجرام وتأييدا له؟
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.