تعيش الغوطة الشرقيّة في ريف دمشق حصاراً خانقاً منذ أكثر من عام ونصف العام، إلى جانب القصف اليومي، الذي تتعرّض له من قبل قوات النظام، حتى باتت الحياة في بلداتها أشبه بالمعجزة بالنسبة إلى الأشخاص، الذين لديهم معيل في الخارج، أو الذين استحدثوا بعض الأعمال البسيطة في الداخل. فكيف بالذين لم يبقَ لهم أحد، وهم كثر؟
أبو مصطفى في الستين من عمره، نحيل الجسد وقد ظهر الإجهاد واضحاً على وجهه. هو يعيش محاصراً في الغوطة منذ نحو عامَين، من دون عمل ولا معيل.. "إلا الله".
يقول لـ"لعربي الجديد": "منذ أشهر لم أشعر بالشبع. أعيش على فتات أحصل عليه من هنا وهناك كل يومَين أو ثلاثة أيام. وفي ما ندر، قد أجد بقايا طعام لدى أحد ممن خانته الحسبة فزادت لديه الكميات. ولأن تلك البقايا كادت أن تتعفّن، رماها أمام بيته. لكن في كثير من الأحيان تسبقني القطط إليها. كذلك قد أحصل على حصّة غذاء من قبل إحدى الجهات. لكن الحظ لا يحالفني دائماً".
من جهته، يعقّب أبو نادر على كلام أبو مصطفى قائلاً إن "الحياة في الغوطة معجزة. حتى نحن لا نعلم كيف أننا ما زلنا على قيد الحياة. على ما يبدو، الإنسان جبّار وقدرته على التأقلم عالية". وعن احتياجاته اليوميّة، التي يبدو أنها احتياجات كل عائلات الغوطة، يقول أبو نادر: " قبل الثورة كان وضعي المادي أكثر من جيّد، الأمر الذي ما زال يعينني على تدبّر أموري. لكني أعيش بتقشّف شديد كإنسان شبه معدوم".
نار الأسعار
هذا التقشّف الإجباري تنتهجه عائلات الغوطة في معيشتها. فاليوم هم يأكلون الخضار الموسميّة حصراً، ويبحثون عن الأقلّ ثمناً من بينها. ومنهم من يقطع كيلومترات عدّة مشياً على الأقدام للحصول على أقلّ سعر ممكن. أما الشاي والقهوة فمعظم الناس هنا، لم يتناولهما منذ زمن.
وترتفع أسعار المواد الغذائيّة في الغوطة بنسب تتراوح ما بين 100 و600%، في حين تبلغ نسبة ارتفاع أسعار المحروقات أكثر من ذلك. فسعر لتر البنزين يصل هنا إلى ثلاثة آلاف ليرة سوريّة في وقت يبلغ 120 ليرة في دمشق. أما لتر المازوت فيصل إلى 1900 ليرة في حين يبلغ في دمشق 75 ليرة، وثمن أسطوانة الغاز في الغوطة 3200 وفي دمشق 1100 ليرة.
ويتحدّث الناشط الإغاثي أبو عمر إلى "العربي الجديد" عن المشاكل الأساسيّة، التي تثقل كاهل الغوطة. فيقول "المشكلة الرئيسيّة التي تعانيها الغوطة هي تأمين المحروقات، المادة الأساسيّة لضخّ المياه للزراعة والشرب". ويشير إلى أنه وفي ما يخصّ "مياه الشرب، فإن اعتماد أهالي الغوطة هو بشكل كامل على الآبار".
يضيف أبو عمر أن "عدد السيارات في الغوطة لا يتجاوز 300 سيارة، بالإضافة إلى عدد من الميكروباصات (حافلات صغيرة) العاملة كوسائل نقل بين بلدات الغوطة، بتعرفة مرتفعة مقارنة مع ما كانت عليه في الماضي. فمثلاً تعرفة النقل من بيت سوا إلى دوما هي 150 ليرة ومن حموريا إلى دوما 200 ليرة، في حين أنها لم تكن تتجاوز العشرين ليرة قبل الحصار".
مداخيل غير ثابتة
يعيش أهالي الغوطة هذه الظروف المأساوية في ظل الفقر المدقع، إذ ما من دخل ثابت يعينهم، باستثناء المقاتلين الذين يتلقون رواتب -غير منتظمة أيضاً- وموظفي المجالس المحليّة ومؤسسات الإغاثة والخدمات، بالإضافة إلى العاملين في الزراعة والتجارة والنقل. أما الآخرون، فيعتمدون على الحصص الغذائيّة المقدّمة من منظمات الإغاثة. ويبلغ متوسّط الدخل الشهري في الغوطة عشرة آلاف ليرة، في حين أن متوسّط المصروف اليومي لا يقلّ عن أربعة آلاف ليرة. وتجدر الإشارة إلى أن نسبة العاطلين عن العمل مرتفعة هنا.
إلى ذلك، ثمّة اعتماد كبير في الغوطة على العملة الصعبة. فمعظم الأموال التي تدخل هي بالعملة الأجنبيّة، سواء كانت تلك الأموال مخصّصة لرواتب المقاتلين أو الموظفين بالإضافة إلى المساعدات النقديّة.
عروة هو أحد العاملين في الصرافة في الغوطة. يقول لـ"العربي الجديد" إن "معاملات البيع والشراء والأجور تحصل كلها بالليرة السوريّة. وهو ما يجعل سوق الصرافة نشطاً". ويلفت إلى أن "أسعار صرف الليرة هنا أقلّ مما هي عليه في دمشق، إذ يبلغ سعر صرف الدولار الأميركي 154 ليرة سورية هنا، أما في دمشق فيسجل 166 ليرة. واليورو 185 ليرة في الغوطة و220 ليرة في دمشق، والريال السعودي 36 ليرة بينما في دمشق 40 ليرة. أما الذهب الذي يباع بـ5900 ليرة هنا، يباع في دمشق بـ6100".
ويوضح عروة أن جزءاً من هذه الأموال يذهب إلى مناطق النظام في حين يهرّب جزء آخر إلى خارج البلاد عبر تعاون بين أشخاص في داخل الغوطة وآخرين في مناطق النظام. مع الإشارة إلى أن نسبة من تلك الأموال تذهب إلى عناصر النظام".
متاجرة بالغوطة
يبدو أن النظام ليس الوحيد الذي يحاصر الغوطة الشرقيّة، فثمّة تجار يضيّقون على الأهالي من خلال التحكّم بالمساعدات، وبأسعار المواد الغذائيّة وكمياتها.
ويؤكّد المنسق العام لـلتجمع الوطني لقوى الثورة في الغوطة الشرقيّة، ورئيس إدارة المجالس المحليّة فيها، نزار صمادي، أن "الغوطة تعاني إذ تتمّ المتاجرة فيها عبر إدخال المساعدات والبضائع. فقد زاد التجار كميّة المواد المسموح إدخالها إلى الغوطة، سعياً منهم إلى تحصيل أكبر قدر من الأرباح، قبل تنفيذ قرار مجلس الأمن الخاص بإدخال المساعدات. ويبيعون البضائع بأسعار مضاعفة. كذلك تتقاضى حواجز قوات النظام لقاء كل كيلوغرام واحد يدخل الغوطة 250 ليرة بغض النظر عن ماهيّة المادة".
وعن المشاكل الأساسيّة التي تواجه المجالس المحليّة، يقول صمادي لـ"العربي الجديد" إنه "وبعيداً عن نقص الدعم والمتاجرة بالغوطة، نعاني مشكلة تراكم القمامة، التي تحوّلت اليوم جبالاً على أطراف المدينة. وهذا التراكم يشكّل خطراً صحياً على أهالي المنطقة". يضيف: "قمنا بمحاولات عدّة للتخلص منها لكنها لم تنجح، في حين لا نستطيع أن نطمرها خوفاً على المياه الجوفيّة السطحيّة، التي تعتبر اليوم المصدر الرئيسي للمياه".
على الرغم من الحصار وكل المشاكل التي تعاني منها الغوطة الشرقيّة، استطاع بعض الناشطين والمؤسسات، التي تعمل في إطار الثورة، بناء مؤسسات مدنيّة تدير شؤون الغوطة. فأصبحت تضمّ مديريّة للصحة، استطاعت تصنيع بعض أنواع الأدوية الأساسيّة والفيتامينات بالإضافة إلى حليب الأطفال، ومديريّة أخرى للتربية. كذلك تمّ افتتاح معاهد متوسطة ومعاهد إعداد مدرّسين، بالإضافة إلى مراكز نشاطات للأطفال والنساء ونوادٍ يتّم العمل فيها على برامج ضدّ العنف.