انتقل العنف الذي تعيشه ولاية شمال دارفور، منذ شهر ونصف تقريباً، إلى عاصمة الإقليم، الفاشر، التي قتل فيها أول من أمس، موظف تابع للصليب الأحمر الدولي برصاص طائش، لم يعرف مصدره وهو في طريق عودته إلى منزله.
وأحرقت أيضا عمادة جامعة الفاشر على أيدي مجهولين، كما اختطف موظف في بعثة الأمم المتحدة "يوناميد" من دون تحديد هوية الخاطفين.
وساد سكان المدينة الخوف والهلع بعد أن كانت تعد الأكثر أمنا بين مدن إقليم دارفور الثلاث.
ولم تشهد مدينة الفاشر حالة انفلات أمني بوتيرة متصاعدة أو نشاطاً للحركات المتمردة منذ اندلاع شرارة التمرد في إقليم دارفور في 2003، والتي احتل عقبها مطار الفاشر، ومن وقتها أقامت السلطات حواجز ترابية وإسمنية، حول المدينة لصد أي هجوم محتمل من الحركات الدارفورية المتمردة.
والفاشر مركز عمليات القوات الدولية لمراقبة الأوضاع في دارفور، حيث يوجد فيها رئاسة قوات البعثة المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الافريقي "يوناميد"، الى جانب رئاسة معظم المنظمات العالمية العاملة في إقليم دارفور، كما تمثل أيضا ثقلاً مركزيا للخرطوم، إذ أنها نقطة وصل الحكومة في الإقليم.
وتقع ولاية شمال دارفور وعاصمتها الفاشر غربي السودان، على بعد نحو 550 كلم عن الخرطوم، وتعتبر أكبر المدن في الإقليم، وكانت محطة لانطلاق القوافل في العصور القديمة.
وتتقابل حدود ولاية شمال دارفور من ناحيتي الغرب والشمال مع حدود السودان الدولية مع كل من تشاد غرباً، وليبيا من جهة الشمال الغربي، وتعتبر بوابة السودان وثغره نحو عمق الغرب الإفريقي.
وللفاشر بعد ديني، إذ كانت في عهد السلاطين، قبل فترة السيطرة التركية – المصرية، ترسل كسوة الكعبة الشريفة.
انفلات وتوترات
وشهدت الولاية صراعاً في الآونة الأخيرة، أخذ طابعاً قبلياً وسياسياً، قاده الزعيم القبلي مستشار الرئيس السوداني، موسى هلال، المتمرد حالياً، من جانب. ومواجهات بين الحكومة والحركات المسلحة في الجزء الشرقي من الإقليم من جانب ثان. وخلفت تلك المواجهات عشرات القتلى الى جانب نزوح الآلاف من الأسر.
وشهدت المدينة خلال أسبوع، حوادث متفرقة عدة، منها مقتل الموظف في الصليب الاحمر الدولي برصاص طائش، وأكد الناطق الرسمي باسم المنظمة الدولية، عادل شريف، لـ"العربي الجديد" أنه لم يعرف مصدر الرصاص حتى الآن أو يعرف الجاني، كما أغلق سوق المدينة أبوابه على خلفية إطلاق نار سمع في قلب الفاشر.
وقالت الحكومة: إن مصدره مطاردة شرطية لمتعاطي مخدرات، وأسفر عن ذلك مقتل ثلاثة واحد منهم شرطي.
أصل الخلاف
ويعود الخلاف بين والي شمال دارفور، يوسف كبر، والزعيم القبلي، موسى هلال، إلى ما قبل عامين، حيث بدأ بأزمة مكتومة بين الرجلين تطورت الى خلاف علني، عجزت معه الحكومة في الخرطوم عن وضع حد له، باعتبار أن الرجلين ينتميان الى الحزب الحاكم ولديهما قاعدة عسكرية وشعبية في دارفور.
كما لهلال وضعية خاصة، ربما تفسر صمت الخرطوم عن اتهامه بالتمرد أو تجريده من المناصب التي يتقلّدها كمستشار للرئيس، عمر البشير، فالرجل ساهم في تكوين ما يعرف بحرس الحدود، وهي قوات غير نظامية قاتلت جنبا إلى جنب مع الحكومة، وتصدت للحركات المتمردة التي كانت تهدد الحكومة في دارفور. وتتهم بارتكاب فظائع وانتهاكات عند انطلاق الحرب بالإقليم في 2003 .
وطفا الخلاف بين، هلال، والوالي كبر، إلى السطح بعد أحداث قبلية دامية، وقعت في جبل عامر في شمال دارفور، وهو أحد الجبال الغنية بالذهب، واتهم، هلال، خصمه بتأجيج الصراع بغرض الاستيلاء على الذهب الموجود في المنطقة وإلهاء القبيلتين بالاقتتال.
ومنذ ذلك الوقت أخذ الصراع بين الرجلين يحتدم الى أن تطور الى مواجهات عسكرية، سيطر على إثرها هلال، على المنطقة الغربية من الولاية، وعين فيها إداريات تحت إشرافه مباشرة من دون أي وجود لحكومة كبر.
وتعتبر الأزمة بين، كبر، وهلال، الأساس الرئيسي للانفلات الأمني في مدينة الفاشر بسبب الاستقطاب الحاد وسط السكان الذي أحدثه خلاف الرجلين.
ويؤكد القيادي في دارفور إبراهيم عبدالله أن "حالة الانفلات الأمني في الولاية سببها الرئيسي الصراع السياسي بين هلال وكبر" ، مضيفا أن ذلك "أحدث حالة انقسام وسط سكان الولاية ما بين مؤيد لهذا ومعارض للآخر"، واعتبره الأخطر على الولاية.
وذكر أن الحركات المسلحة وجدت من هشاشة المنطقة الشرقية منفذاً لتحقيق مكاسب عسكرية على الأرض وتقوية مواقفها التفاوضية، لا سيما في ظل المساعي الدولية الجارية لاستئناف التفاوض بين الحكومة والحركات الدارفورية حاملة السلاح.
ورسم مستشار الوالي السابق، ابراهيم محمد محمود، صورة قاتمة للوضع الامني في مدينة الفاشر، وأكد بأنها تعيش انفلاتاً أمنياً أسوأ مما تعيشه المناطق التي تسيطر عليها الحركات المتمردة.
ودلل في ذلك بحادثة مقتل موظف الصليب الاحمر الدولي بالقرب من بيت الوالي وأمانة الحكومة والقيادة الغربية للجيش الى جانب حريق عمادة جامعة الفاشر، التي تقبع في قلب المدينة وتحاط بحراسة أمنية مشددة.
وأضاف "في الفاشر الآن لا تضمن ليلك من نهارك والجميع يعيش في رعب ويتخوف من الرصاص الطائش". وأكد أن الحالة لا علاقة لها بحركات التمرد باعتبار أن العاصمة، محصنة تماماً أمنياً. وعزا ذلك الى الخلاف وبين، هلال وكبر، وفشل الأخير في بسط هيبة الدولة، وطالب الحكومة في الخرطوم بالتدخل السريع والحد من "الزج بالولاية للهاوية" وحسم الخلاف بين الرجلين.
أسباب التدهور الأمني
وقال نائب رئيس هيئة محامي دارفور، صالح محمود لـ"العربي الجديد": إن هنالك مجموعة عوامل متداخلة كانت سبباً في حالة الانفلات الأمني، التي تعيشها ولاية شمال دارفور عامة والعاصمة بشكل خاص، وعلى رأسها سياسات الحكومة في الخرطوم التي ارتكزت على الحل العسكري لمشاكل الإقليم، بجانب سياسة التهميش، والدفع بمليشيات موالية لها، عبر تجنيد مجموعات كبيرة وتسليحها بأسلحة ثقيلة، ما فاقم من حالة الفوضى والانفلات الأمني، باعتبار أن هناك من يستغل الوضع ويأتي بممارسات سلبية.