ويعتبر محللون سياسيون وباحثون في علم الاجتماع أنه من الصعب إنكار أن احتقاناً طائفياً يعاني منه المجتمع المصري لدرجة أنه يصعب السيطرة على حرائقه التي تنشب بين الحين والآخر. وفي أماكن التماس بين التجمعات المسلمة والمسيحية، وخصوصاً في المناطق التي تغلب عليها التقاليد العصبية، تمثل الطائفية ارتداداً واضحاً عن مفهوم الدولة والمواطنة. وتنتمي تلك الصراعات الطائفية إلى ما يسمى ظاهرة "العنف المجتمعي"، إذ لم يعد العنف صادراً فقط عن الدولة أو بعض التنظيمات المسلحة المعارضة، لكنه بات واضحاً في سلوك بعض شرائح وفئات المجتمع غير المسيسة، وهو أمر يتبدى عادة في المكان والزمان الذي تضعف فيه قبضة الدولة وسيطرة القانون، وفقاً للمحللين والباحثين.
في كل مرة تنشب فيها معركة طائفية، تنزف الأسرة المصرية من دماء أبنائها، ويتمزق شيء من نسيجها التاريخي، ثم يحاول الوسطاء إخماد نيرانها بوسائل غير ناجعة، تكتفي بإخفاء اللهب الظاهر من دون أن تنتبه إلى أن النيران لا تزال مستيقظة تحت الرماد، إذ لا تلبث أن تشتعل في موضع آخر. وتنطلق معظم الأسباب التي تتأسس عليها هذه الحوادث، بحسب باحث اجتماعي، من عناصر متشابهة، مثل العلاقات العاطفية بين طرفين أحدهما قبطي والآخر مسلم، ومحاولة التوسع في بناء كنائس. ثم تأتي بعد ذلك أسباب أخرى، كالخلافات الحياتية التي تتطور إلى الطائفية، وقلما كان الصراع حول الأفكار الدينية على الرغم من ظهور ذلك أحياناً.
المنيا الملتهبة
يقول الباحث إنه لا يمكن اعتبار ما حصل في المنيا، هذا الأسبوع، حدثاً منفصلاً عن تاريخ الفتنة الطائفية المعاصر. "المنية محافظة ملتهبة بطبيعتها، وحادث قرية طهنا الجبل التابعة لمركز المنيا، الذي أسفر عن مقتل شاب مسيحي، وإصابة ثلاثة آخرين، حلقة من سلسلة طويلة من الحوادث والإجراءات الحكومية والشعبية المتبعة، وهي ذاتها التي تكررت من قبل. تبدأ أولاً بأن تفرض أجهزة الأمن سياجاً أمنياً لمنع تجدد الاشتباكات، ثم تبدأ اتصالات الأجهزة الحكومية مع كبار الطرفين لاحتواء الأمر عبر الإعلان عن التزامهم الكامل بدولة القانون، ثم دعوة الأطراف المتصارعة لعقد جلسة عرفية، مع العبارات الثابتة عن الوحدة الوطنية، وما حدث ليس سوى عمل فردي لا علاقة له بالتعصب الديني"، وفقاً للباحث.
يؤيد رأي هذا الباحث بيان رئيس البرلمان المصري، علي عبد العال، عن حادثة طهنا الجبل، الذي تضمن نصاً مكرراً للبيانات السابقة كلما انفجر حدث طائفي. وجاء في بيان عبد العال: "هذه الأحداث أدمت قلوب المصريين جميعاً، وأذهلتهم وآذت مشاعرهم. فمغازل التاريخ قد نسجت لهذا الشعب ثوبه الناصع البياض، فلم يعرف التفرقة، ونحن أمة واحدة تظهر الأحداث مدى تشابك نسيجها الوطني الذي يستمد زاده من الديانات السماوية".
وتعود بداية حادث طهنا الجبل إلى مشاجرة بين طفل مسلم وآخرين في منطقة يسكنها أقباط. وفي يونيو/ حزيران الماضي، تسببت علاقة عاطفية بين رجل قبطي وامرأة مسلمة بقرية مدينة الفكرية، بمركز أبو قرقاص، في وقوع العديد من الإصابات، واحتراق منازل عدة. ولمضاعفة الفتنة، قام بعض الشبان بتعرية امرأة قبطية مسنّة، وهي أمور تمّت تسويتها ظاهرياً، ولم تتم معالجتها بصورة جذرية في بيئة صعيدية قليلة الثقافة شديدة التعصب.
كما شهدت قرية كوم اللوفي بمركز سمالوط بمحافظة المنيا، اشتباكات بين أهالي القرية بسبب بناء أُشيع أنه سيتم تحويله إلى كنيسة؛ فبدأت المعارك، واشتعلت النيران في المبنى، وامتدت لمنازل أخرى. وما حدث في قرية كوم اللوفي حصل أيضاً في قرية أبو يعقوب بمركز المنيا، يوم الجمعة الماضي، إذ بدأت الأحداث المؤسفة بتجمهر عدد من مسلمي القرية حول منزل قبطي أشيع تحويله إلى كنيسة. كما شيّعت قرية الجلاء بمركز سمالوط تسعة من أبنائها بعد اشتباكات مسلحة في 4 إبريل/ نيسان 2015، نشبت بسبب رشق عدد من الشبان سيارة تقل عدداً من الطالبات المسيحيات.
تاريخ الفتنة
من المعروف أن عصور ما قبل ثورة يوليو/ تموز 1952 كانت خالية من الأحداث الطائفية، ويذهب بعض الأقباط إلى أن أحداثاً طائفية بدأت على نطاق ضيق في الخمسينات والستينات، بينما يقول الباحث السياسي، الدكتور مصطفى الفقي، إنّ "بوادر الاضطرابات الطائفية ظهرت بعد رحيل الرئيس جمال عبدالناصر، والبابا كيرلس السادس، ومجيء رئيس جديد للدولة وبابا جديد للكنيسة". سجلُّ حوادث الفتنة الطائفية، الذي لم يغلق بعد، يحتفظ بمجموعة ضخمة من تلك المعارك مثل حادثة "الخانكة" بالقليوبية عام 1972، التي اشتعلت فيها تظاهرات مسيحية احتجاجاً على هدم شبان مسلمين متعصبين لأحد المباني لإجهاض بناء كنيسة بالقرية، في مقابلها قامت تظاهرات للمسلمين، واندفع أحد المسيحيين فأطلق الرصاص عليهم.
أما أحداث "الزاوية الحمراء" (12 ــ 17 يونيو/ حزيران 1981)، هي من أشهر الحوادث الطائفية، والتي راح ضحيتها 81 قتيلاً (وفقاً لوزير الداخلية الأسبق حسن أبو باشا). وفي هذه الحادثة، بدأت تبريرات النظام الهشة والتقليل من حجم الضحايا بصورة ساذجة لا يزال يذكرها التاريخ، إذ أعلن الرئيس الراحل أنور السادات، في إحدى خطاباته، أن ما جرى كان بسبب "ماء غسيل وسخ" ألقاه قبطيّ على عائلة مسلمة، فحدث شجار بين الأسرتين نتيجة لذلك، وأن عدد القتلى من الأقباط لا يزيدون عن تسعة أفراد فقط. بينما تتحدث الرواية الشعبية عن أن بعض الأقباط أعلنوا عن نيتهم بناء كنيسة على أرض متنازع عليها، فتحول النزاع من شجار عادي إلى معركة مسلحة، ثم تجددت الاشتباكات المسلحة مرة أخرى بعد خمسة أيام.
ثم جاء عصر الرئيس المخلوع حسني مبارك ليعلن عن فترة ذهبية لاشتعال الأحداث الطائفية، فكثرت المعارك في محافظات عدة، مثل المنيا، وقنا، والأقصر، وسوهاج، وأسيوط، والإسكندرية، والبحر الأحمر، ومرسى مطروح، وكان من أشهرها حادثة قرية "الكشح" بسوهاج عام 1999. ويُقال إن خلافات بين التجار في القرية تسببت في اندلاع اشتباكات بين عائلتين صعيديَّتين، توسعت لتشمل بُعداً طائفياً راح ضحيتها 21 قتيلاً قبطياً.
كما شهدت مدينة نجع حمادي بمحافظة قنا، عام 2010، اشتباكات وإحراقاً للمنازل والمحال التجارية، مخلّفة الإصابات، وكان ذلك على خلفية إطلاق النار ومقتل ستة أقباط وشرطي أثناء احتفالات عيد الميلاد. ثم جاء تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية في أول يناير/ كانون الثاني 2011، مسفراً عن مصرع 17 شخصاً على الأقل. وعلى أثر ذلك، خرج مسيحيون إلى الشوارع في احتجاجات، وتبادلوا مع المسلمين الرشق بالحجارة، وأطلقت الشرطة قنابل الغاز لتفريق المحتجين.
لم تنتهِ الأحداث الطائفية بعد ثورة يناير/ كانون الثاني 2011؛ فبدأت بقرية صول بمركز أطفيح في 10 مارس/ آذار 2011، نتيجة هدم كنيسة في القرية رداً على علاقة عاطفية بين رجل مسيحي وامرأة مسلمة. تبعتها حادثة مروعة في إبريل/ نيسان 2011 بمنطقة إمبابة، حين ترددت شائعات حول احتجاز مسيحية اعتنقت الإسلام بمبنى تابع لإحدى الكنائس، وهو ما أدى إلى مقتل 13 شخصاً من مسلمين ومسيحيين وإصابة نحو 75 آخرين.
الوجه السياسي
"الشعارات الرنانة والعبارات الجوفاء والبيانات الرسمية لا تسهم في حلّ الأزمة الطائفية، بل إن الجسد الوطني المريض بالطائفية أصبحت لديه مناعة من تلك المسكنات لكثرة تناولها. لم يتم تشخيص طبيعة هذا الداء ومعرفة أسبابه، والأصعب من ذلك غياب الإرادة الحقيقية للعلاج"، يقول أحد أعضاء مجلس النواب المصري.
قليلون هم أولئك الدارسون المعنيون بتفكيك فكرة الصراع الطائفي بحثاً عن إنهائه أو تحجيمه. ويمكن اعتبار المفكّر، الباحث السوري برهان غليون، أحد أولئك الذين قدموا طرحاً جديداً حين يقول إن الطائفية تنتمي إلى ميدان السياسة لا إلى الدين والعقيدة، وأنها تشكل سوقاً سوداء موازية للسياسة أكثر مما تعكس إرادة تعميم قيم أو مبادئ أو مذاهب دينية لجماعة خاصة. والفرضية الرئيسية في هذه النظرية هي أن الطائفية لا علاقة لها في الواقع بتعدد الطوائف أو الديانات، كما أن نظريات مرفوضة أوحت بأن الفتنة الطائفية النائمة جزء من ثقافتنا، فأصبحنا نقبل بأن التعدد الديني والمذهبي علة من عللنا بدلاً من أن تكون ثروة ثقافية وروحية دافعة للنمو والتطور.
ويضيف البرلماني المصري ذاته، "رأينا في الحالة المصرية استثماراً سياسياً كبيراً لحالة الفتنة الطائفية. فالنظام السياسي مارس ضغوطاً كثيرة طوال عقود لاحتواء الحالة المسيحية عبر صفقة صامتة تسلّم الأقباط وشؤونهم الاجتماعية للكنيسة تسليماً تاماً، مقابل استسلام الكنيسة الرسمية لتوجهات النظام ورغباته".
ويتردد أن الأجهزة الأمنية مسؤولة عن كشف ملفات فضائح احتفظت بها زمناً طويلاً، ثم الإفراج عنها وتسريبها لبعض الصحف الصفراء لتشويه الكنيسة والضغط عليها. ومن بين نماذج استثمار النظام لفكرة الصراع الطائفي (بعد ثورة يناير) ما قام به المجلس العسكري الحاكم حين استخدم شعارات طائفية تحريضية ضد متظاهرين أقباط أمام ماسبيرو. وكان التلفزيون الرسمي والصحافة الموالية للنظام يقومون بتحريض طائفي واضح، باستخدام عبارات "متظاهرون أقباط يرشقون الجنود بالحجارة والمولوتوف"، و"الأقباط يعتدون بالسيوف والخناجر والأسلحة النارية، ما أدى إلى مقتل ثلاثة من رجال الجيش بطلقات نارية"، و"القتلى والمصابون جميعهم من جنود الجيش". فيما تجاهل التلفزيون المصري الحديث عن القتلى من الجانب المسيحي الذين تراوحت أعدادهم، وفقاً للأقباط، ما بين 24 ــ 35 شخصاً.
فيما أعلن المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية في بيان له تعليقاً على هذه الأحداث، أنّ "الأقباط يشعرون بأن مشاكلهم تتكرر كما هي باستمرار من دون محاسبة المعتدين، ومن دون تفعيل القانون، أو وضع حلول جذرية لهذه المشاكل".
على جانب آخر، فإن السلفيين في مصر، والذين أصبح لهم صوت سياسي بعد ثورة يناير، استثمروا حادث ماسبيرو، ونظموا تظاهرات ضد الأقباط، واتهموهم بالبلطجة وضرب الجيش المصري. وكان السلفيون، المعروفون بالقرب الشديد من أجهزة الأمن المصرية، نظموا قبيل ثورة 25 يناير العديد من التظاهرات الساخنة المناهضة للأقباط والمحرّضة على الكنيسة للمطالبة بتسليمهم السيدة كاميليا شحاتة. وهذه الأخيرة هي قبطية أعلنت إسلامها واحتجزتها الكنيسة. ثم اختفت لاحقاً جذوة هذه المطالبات التي شغلتهم كثيراً.
وغالباً ما استثمر التيار السلفي الموالي للأمن هذه الأحداث الطائفية لكسب شعبية لدى قطاعات من البسطاء، وتشكيل رأي عام يصب في خدمة النظام الحاكم وإدارته لملف الأقباط، مثل قول نائب رئيس الدعوة السلفية، ياسر برهامي، بعد ثورة يناير، إن "الأقباط ليس من حقهم تولي الوظائف القيادية والسيادية في مصر". كما دعا السلفيون وقيادتهم للتظاهر ضد قرار تعيين اللواء القبطي، عماد شحاتة ميخائيل، محافظاً لقنا عام 2011، والمطالبة بمحافظ مسلم. علماً أن المحافظ السابق، مجدي أيوب، كان شرطياً قبطياً أيضاً. وتجاهل السلفيون أن الدافع الحقيقي لإشعال هذه المشكلة ليس كونه قبطياً، لكن تعمد المجلس العسكري تعيين شرطي كان يشغل منصباً رفيعاً في مديرية أمن الجيزة أثناء الثورة.
في المقابل، هناك استثمار سياسي لتلك الأحداث الطائفية يقوم به ناشطون أقباط متعصبون خارج البلاد ضمن كيان يُطلق عليه "أقباط المهجر". فلا تمرّ حادثة إلا ولأقباط المهجر فيه رأي ينطوي على بُعد سياسي واضح أو مستتر. ففي أحد بياناتهم المنشورة على الإنترنت، طالبوا بإعلان دولة قبطية مستقلة أسوة بجنوب السودان المسيحي. كما أنهم استبدلوا العلم المصري بآخر يشبهه تماماً باستثناء حذف النسر الذهبي الذي وضعوا مكانه الصليب.
دولة بلا قانون
دائماً ما تمرّ أحداث العنف الطائفي بعيداً عن دولة القانون، إذ تجبر الأطراف على جلسات الصلح العرفي، ولا يكشف في العادة عن الجناة الحقيقيين لمعاقبتهم، ما يمهّد لأحكام جائرة ليست لها علاقة بسيادة دولة القانون أو حقوق المواطنة التي أقرها الدستور، مثل الحكم بتهجير بعض الأسر، كما حصل لستة أسر مسيحية عام 2015 من قرية كفر درويش بمركز الفشن، في محافظة بني سويف، على خلفية اتهام أحد أبنائها بنشر رسوم مسيئة للدين الإسلامي على حسابه عبر موقع "فيسبوك". ومن قبلها تعددت الأحكام المشابهة، كتهجير 15 عائلة قبطية من قرية حجازة قبلي، مركز قوص، محافظة قنا عام 2006. كما تم تهجير ثماني أسر قبطية من قرية البيضاء بمنطقة العامرية بالإسكندرية تنفيذاً لقرار جلسة عرفية عام 2012.
وكان واضحاً أن جهاز أمن الدولة (الأمن الوطني لاحقاً) استأثر لنفسه بالتحكم وإدارة الصراع الطائفي في مصر. وترفض الدولة دائماً خروج المشاكل الطائفية من قبضة الأمن، إذ أصدرت الرئاسة المصرية قراراً بإلغاء مؤتمر "تهجير الأقباط" في يونيو/ حزيران 2015، خوفاً من تفجر أزمات للنظام على خلفية طائفية.
ويتهم نشطاء مسيحيون الأجهزة الأمنية بترويعهم أثناء الخلافات، بل والإشراف على بيع ممتلكاتهم من منازل وأراضٍ قبل تهجيرهم، وإجبارهم على المغادرة في فترة وجيزة، كما حدث في قرية طامية بالفيوم، خلال 10 أيام. وبعد صلح عرفي تم بين مسلمين وأقباط برعاية قيادات أمنية، بعد فتنة زواج مسلمة من جارها القبطي، ثم قام أقارب المرأة بذبحها ودفنها. في حين تمت تسوية عملية القتل في القرية والتغاضي عن الجريمة، ولم يتم اقتياد أي متهم بالقتل إلى المحكمة. ويعد الحكم بالتهجير بمثابة عقاب جماعي يتناقض مع مبادئ الدولة الحديثة، كما يتناقض مع مواثيق حقوق الإنسان الدولية، ويتنافى أيضاً مع الشريعة الإسلامية.
وفي كتابه "الأمن من المنصة إلى الميدان"، يكشف حمدي البطران، وهو لواء شرطة سابق، عن أن "الملف القبطي كان من بين الملفات الحساسة التي آثر جهاز الأمن الاحتفاظ بها لنفسه، واستثماره وقت ما يشاء". فيما يذهب الكاتب القبطي مجدي قلادة إلى القول إن "السادات أصر على تسليم جهاز أمن الدولة ملف الأقباط لإيمانه بخطرهم الداهم على أمن مصر. ومنذ ذلك الوقت، أصبح اضطهاد وإذلال الأقباط هو الشغل الشاغل لجهاز أمن الدولة، وذلك لأسباب عدة، منها إشعال فتن طائفية لشغل الرأي العام عن مشاكله الداخلية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وكسب تعاطف الغوغاء والدهماء في الشارع المصري"، وفقاً للكاتب.
من التهجير للهجرة
ولم يختف شعور المسيحيين بالقلق بعد ثورة 2011، بل تمّت تغذية هذا الشعور. وذكر المساعد السابق للرئيس الأميركي باراك أوباما لشؤون الشرق الأوسط، دينيس روس، في صحيفة "واشنطن بوست"، أن عدد المهاجرين الأقباط تجاوز 100 ألف شخص. كما تم توجيه الأقباط أمنياً منذ ذلك الحين بواسطة الكنيسة بصورة مضادة لمكتسبات الثورة، فظهر موقفهم موحداً تقريباً في مساندة الدولة العميقة على طول الخط، بدءاً من انتخابات الدستور مروراً بالتأييد المطلق للمرشح الخاسر في انتخابات الرئاسة المصرية 2012، أحمد شفيق، وانتهاءً بالدفاع المستميت عن إجهاض التجربة الديمقراطية المصرية الوليدة على يد الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي وسياساته المناهضة للتعددية السياسية.
ويلوم الكاتب فهمي هويدي عملية شحن الأقباط عاطفياً ضد ثورة يناير عبر وسائل إعلام لها أجنداتها المناهضة للديمقراطية واستثمار تلك الأحداث من الجانب القبطي المسيس، قائلاً "أنبّه إلى أهمية التفرقة بين مزايدين يتاجرون بالملف القبطي، ومتعصبين يدعون إلى المفاصلة ويرفضون التعايش إلا إذا تم وفق شروطهم، ومهرّجين التمسوا الوجاهة السياسية من خلال عرض أنفسهم ممثلين للأقباط، وآخرين وقعوا في فخ الاستخدام والغواية، فتحالفوا مع الكارهين والكائدين للمسلمين والعرب، من بين المهاجرين إلى الولايات المتحدة وكندا خصوصاً. أُفرّق بين هؤلاء جميعاً وبين عامة الأقباط المصريين، الذين يدركون أنهم جزء من هذا الوطن ويقفون في الصفوف الأولى من مناضليه وأبنائه الشرفاء".
أما عن الأحزاب السياسية والدينية في مصر، فهي إما أحزاب كرتونية نشأت تحت سمع وبصر الدولة، وليست لها أي رؤية في علاج المشاكل العامة، وتؤثر التماهي مع موقف النظام، وإما أن تكون أحزاباً حقيقية نشأت بعد ثورة يناير/ كانون الثاني وأفل نجمها بعد انقلاب 30 يونيو/ حزيران 2013، فهي أضعف من أن تتخذ موقفاً مؤثراً على مجريات الأحداث سوى إصدار بيانات تشجب أي شكل من أشكال الاضطهاد وتدعو يائسة إلى تفعيل دولة القانون.
وتبقى الإشارة إلى أن اضطهاد الأقباط في مصر ينتمي إلى حالة أكبر تشمل إهدار حقوق الإنسان بصفة عامة، لا تخص الأقباط وحدهم، فجميع الشرائح الضعيفة يُمارس ضدها الاضطهاد بقسوة، كالمرأة والطبقات العمالية الفقيرة والفلاحين. لذا يمكن ملاحظة أن أبناء طبقة الأثرياء القبطية لا يشعرون بهذا التمييز الطائفي، فهو مرتبط فحسب بالفقراء المسيحيين. ويعود ذلك إلى أنهم يعيشون في عالمٍ تكون معايير التمييز فيه على أساس الثروة والأرباح، وليس الدين والعقيدة، وفقاً لباحثين في علم الاجتماع.