09 يونيو 2017
الفقراء الجدد
تنشئ التحولات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى طبقاتٍ جديدةً من الفقراء والأغنياء، فهناك دائماً خاسرون ورابحون في التحولات والأحداث والحروب والكوارث، لكن الظاهرة الأكثر أهميةً أن الفقراء المحدثين هم الذين يشعلون الثورات والأزمات، لأنهم الأكثر إدراكاً للأزمة، والأكثر تضرّراً منها، فالفقراء من قبل تكيفوا مع الفقر، وقبلوا به، والأغنياء الجدد سيكونون، بطبيعة الحال، راضين عن الأوضاع الجديدة، ويدافعون عنها.
وفي الحالة المعاصرة التي نشأت بعد الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، شغل الكتاب والمفكرون والمؤرخون بظاهرة الفقراء الذين أنتجتهم الثورة الصناعية، مثل المزارعين وملاكي الأراضي والمهاجرين من الريف إلى المدن، الذين فقدوا مواردهم في الريف وضاقت بهم المدن، فعندما بدأت الثورة الصناعية تحل على العالم من دون إعلان، قلبت كل شيء رأساً على عقب. وفي دراسته الأزمة الاقتصادية في الثلاثينيات، يراجع كارل بولانيي التاريخ الاقتصادي المصاحب للثورة الصناعية، ما يجعل كتابه يصلح مختبراً لدراسة (واستعادة) حالات شبيهة ومماثلة لما يجري اليوم في الأزمة الاقتصادية العالمية والتحولات الاقتصادية والاجتماعية المصاحبة للمعلوماتية والشبكية! فقد ارتفعت أسعار الحبوب والمواد الغذائية أضعافاً مضاعفة، وانخفضت أجور العمال، واختفت طبقة صغار المزارعين، وبدأت الآلة تحلّ محل اليد العاملة على نطاق واسع، وضاقت المساكن في المدن بأصحابها، وانتشر التشرّد والإدمان والجريمة على نطاق واسع.
وتجنبت الحلول والاقتراحات والتفسيرات التحولات المصاحبة للثورة الصناعية، وقدّمت اقتراحاتٍ وتصوراتٍ، من قبيل تخفيض عدد الكلاب، وبعض فصائل الأغنام والخيل، لأنها بحاجة إلى طعام كثير، ووجهت الدعوات إلى الفقراء (الفقراء فقط!) للتقليل من الطعام والتقشّف، والتقليل أو حتى الاستغناء عن الشاي وسيلةً لتخفيف الفقر والحاجة.
والأكثر ذكاءً أو جرأةً من الدراسات اتجه إلى القوانين والتشريعات السائدة لتحميلها المسؤولية
عن الفقر، لماذا غابت الإشارات التي تنبئ بالتحولات الوشيكة والحتمية المصاحبة للصناعة؟ يتساءل المفكر الاقتصادي، بولانيي، بل ويؤكّد أيضاً أن مراقبين معاصرين كثيرين أغفلوا التحولات المصاحبة للصناعة في فهم التاريخ الاقتصادي والاجتماعي الذي تشكل وغيّر العالم، وذلك على الرغم من الإجماع والبداهة اليوم على الأثر الذي أحدثته الصناعة في حياة العالم وموارده وتشكلاته الاجتماعية والثقافية.
لماذا نستعيد التاريخ الاقتصادي اليوم، وهل يصلح لفهم ما يجري من تحولات وأزمات كبرى وتفسيرها؟ على أية حال، اعتادت الأمم، بعمومها أو بنخبها وقياداتها، أن تلجأ إلى التاريخ، باعتباره مختبراً للدراسة والفهم، أو ملجأ للهروب والحنين. التطرّف والسلفية، على سبيل المثال، يصاحبان الهزائم والأزمات في التاريخ والجغرافيا، لكننا نستطيع، بالمراقبة والمقارنة، ملاحظة كوارث وأخطاء كثيرة تتكرّر، ليس لأن التاريخ يكرر نفسه كما يقال. ولكن، لعدم الرغبة في الخروج من الأزمة، لأنها (الأزمة) تمثل مصالح وموارد كبيرة لفئاتٍ من الناس والقوى السياسية والاقتصادية، يقول أرنولد توينبي، في نظريته المشهورة "التحدّي والاستجابة"، إن الأمم تواجه الأزمات الكبرى بأحد مسارين: النكوص إلى التاريخ لأجل الهروب، أو توظيف التجارب التاريخية والعزائم القائمة في تحويل التحدّيات إلى مكاسب وفرص.
ثمّة سؤال ملح ومتكرّر، طرح في المنظمات والدراسات العالمية، ما المخاوف والتحديات المصاحبة للاقتصاد الجديد المتشكل حول المعلوماتية؟ يقول المفكر الاقتصادي، جيرمي ريفكين، إن "تحويل الأفكار إلى سلعة يجعلها مبتذلةً، وينطوي على مغامرةٍ كبرى. ولذلك، فهو يرى في الأهمية المتنامية للأفكار في عالم التجارة شبحاً مقلقاً، .. عندما تصبح الأفكار الإنسانية سلعةً بهذه الأهمية، ما الذي سيحدث للأفكار التي على الرغم من أهميتها لن تكون مغرية تجارياً؟ هل سيتاح المجال للرؤى غير التجارية في حضارةٍ يعتمد الناس فيها على الوسط التجاري لأفكارٍ يستطيعون كسب عيشهم بواسطتها؟ ماذا سيكون التأثير في وعينا الجماعي، وفي مستقبل خطابنا الاجتماعي؟".
نشأت حالة مقلقة من الاحتكار، يشير إليها ريفكين، فإحاطة الموارد الخام للاقتصاد الجديد
ببراءات اختراع يبدل كيفية التعامل مع هذه الموارد بصورة جوهرية. وعلى سبيل المثال، اشترت مجموعة من الشركات الملكية الفكرية للبذور الزراعية المهجّنة والمطوّرة، وصارت تتحكّم في البذور، ومن ثم الزراعة والإنتاج الزراعي. وكسرت، للمرة الأولى في التاريخ العلاقة التاريخية بين الفلاحين والبذور الزراعية؛ فهي بذور تؤجر للمزارعين لاستخدامها مرة واحدة، ولا يحق لهم إعادة استخدامها. ولأجل ضمان حقها في منع إعادة استخدام البذور، أدخلت الشركات تقنيات تعقيم (من العُقْم) تحول دون إعادة استزراع البذور! وبالطبع، يدفع ذلك الفلاحين إلى الاعتماد الكامل على الشركات، ويضعهم تحت رحمتها، ويجعلهم مهدّدين بالإفلاس.. كان ذلك تحولاً كبيراً في تاريخ الزراعة.
وعندما تصبح العلاقات الاجتماعية تجاريةً، كما يحدث اليوم في شبكات التواصل الاجتماعي، تتحوّل حياة الناس الخاصة واليومية إلى سلعة؛ ماذا يتبقى للعلاقات ذات الطبيعة غير التجارية؟ وعندما تصبح كل واجهات كينونتنا تقريباً فعالياتٍ مدفوعة الثمن، تغدو حياة الإنسان نفسها المنتوج التجاري الأساسي، ويصبح العالم التجاري الحكم النهائي لوجودنا الشخصي والجماعي، وأصبح واضحاً اليوم كيف تصمم الشركات السلوك اليومي والاجتماعي والاتجاهات نحو السلع والأفكار وأسلوب الحياة!
وبتضاعف تجارة السلع الثقافية، تنتشر أيضاً ثقافة عالمية متجانسة. وهذا يعني غياب التنوع الثقافي، وانحسار ثقافات ولغات أو انقراضها. يقول وايد ديفيس في مقالة نشرتها مجلة "ناشونال جيوغرافيك": "مع اندثار كل لغة، يصبح العالم محلاً يلازمه نقص أصالته، ولكننا أيضاً نضحّي بمعرفةٍ صرفة، وهي إنجاز فكري لآلاف السنين". وفي تقرير الثقافة العالمي لعام 1998، الذي تصدره منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) وصف التوتر بين الثقافة والتجارة بالقول: "يبدو أن القيم الثقافية التي تميز المجتمعات المحلية والإقليمية والقومية وتربطها تتعرّض لخطر الانغمار في السوق التجارية العالمية".
وفي الحالة المعاصرة التي نشأت بعد الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، شغل الكتاب والمفكرون والمؤرخون بظاهرة الفقراء الذين أنتجتهم الثورة الصناعية، مثل المزارعين وملاكي الأراضي والمهاجرين من الريف إلى المدن، الذين فقدوا مواردهم في الريف وضاقت بهم المدن، فعندما بدأت الثورة الصناعية تحل على العالم من دون إعلان، قلبت كل شيء رأساً على عقب. وفي دراسته الأزمة الاقتصادية في الثلاثينيات، يراجع كارل بولانيي التاريخ الاقتصادي المصاحب للثورة الصناعية، ما يجعل كتابه يصلح مختبراً لدراسة (واستعادة) حالات شبيهة ومماثلة لما يجري اليوم في الأزمة الاقتصادية العالمية والتحولات الاقتصادية والاجتماعية المصاحبة للمعلوماتية والشبكية! فقد ارتفعت أسعار الحبوب والمواد الغذائية أضعافاً مضاعفة، وانخفضت أجور العمال، واختفت طبقة صغار المزارعين، وبدأت الآلة تحلّ محل اليد العاملة على نطاق واسع، وضاقت المساكن في المدن بأصحابها، وانتشر التشرّد والإدمان والجريمة على نطاق واسع.
وتجنبت الحلول والاقتراحات والتفسيرات التحولات المصاحبة للثورة الصناعية، وقدّمت اقتراحاتٍ وتصوراتٍ، من قبيل تخفيض عدد الكلاب، وبعض فصائل الأغنام والخيل، لأنها بحاجة إلى طعام كثير، ووجهت الدعوات إلى الفقراء (الفقراء فقط!) للتقليل من الطعام والتقشّف، والتقليل أو حتى الاستغناء عن الشاي وسيلةً لتخفيف الفقر والحاجة.
والأكثر ذكاءً أو جرأةً من الدراسات اتجه إلى القوانين والتشريعات السائدة لتحميلها المسؤولية
لماذا نستعيد التاريخ الاقتصادي اليوم، وهل يصلح لفهم ما يجري من تحولات وأزمات كبرى وتفسيرها؟ على أية حال، اعتادت الأمم، بعمومها أو بنخبها وقياداتها، أن تلجأ إلى التاريخ، باعتباره مختبراً للدراسة والفهم، أو ملجأ للهروب والحنين. التطرّف والسلفية، على سبيل المثال، يصاحبان الهزائم والأزمات في التاريخ والجغرافيا، لكننا نستطيع، بالمراقبة والمقارنة، ملاحظة كوارث وأخطاء كثيرة تتكرّر، ليس لأن التاريخ يكرر نفسه كما يقال. ولكن، لعدم الرغبة في الخروج من الأزمة، لأنها (الأزمة) تمثل مصالح وموارد كبيرة لفئاتٍ من الناس والقوى السياسية والاقتصادية، يقول أرنولد توينبي، في نظريته المشهورة "التحدّي والاستجابة"، إن الأمم تواجه الأزمات الكبرى بأحد مسارين: النكوص إلى التاريخ لأجل الهروب، أو توظيف التجارب التاريخية والعزائم القائمة في تحويل التحدّيات إلى مكاسب وفرص.
ثمّة سؤال ملح ومتكرّر، طرح في المنظمات والدراسات العالمية، ما المخاوف والتحديات المصاحبة للاقتصاد الجديد المتشكل حول المعلوماتية؟ يقول المفكر الاقتصادي، جيرمي ريفكين، إن "تحويل الأفكار إلى سلعة يجعلها مبتذلةً، وينطوي على مغامرةٍ كبرى. ولذلك، فهو يرى في الأهمية المتنامية للأفكار في عالم التجارة شبحاً مقلقاً، .. عندما تصبح الأفكار الإنسانية سلعةً بهذه الأهمية، ما الذي سيحدث للأفكار التي على الرغم من أهميتها لن تكون مغرية تجارياً؟ هل سيتاح المجال للرؤى غير التجارية في حضارةٍ يعتمد الناس فيها على الوسط التجاري لأفكارٍ يستطيعون كسب عيشهم بواسطتها؟ ماذا سيكون التأثير في وعينا الجماعي، وفي مستقبل خطابنا الاجتماعي؟".
نشأت حالة مقلقة من الاحتكار، يشير إليها ريفكين، فإحاطة الموارد الخام للاقتصاد الجديد
وعندما تصبح العلاقات الاجتماعية تجاريةً، كما يحدث اليوم في شبكات التواصل الاجتماعي، تتحوّل حياة الناس الخاصة واليومية إلى سلعة؛ ماذا يتبقى للعلاقات ذات الطبيعة غير التجارية؟ وعندما تصبح كل واجهات كينونتنا تقريباً فعالياتٍ مدفوعة الثمن، تغدو حياة الإنسان نفسها المنتوج التجاري الأساسي، ويصبح العالم التجاري الحكم النهائي لوجودنا الشخصي والجماعي، وأصبح واضحاً اليوم كيف تصمم الشركات السلوك اليومي والاجتماعي والاتجاهات نحو السلع والأفكار وأسلوب الحياة!
وبتضاعف تجارة السلع الثقافية، تنتشر أيضاً ثقافة عالمية متجانسة. وهذا يعني غياب التنوع الثقافي، وانحسار ثقافات ولغات أو انقراضها. يقول وايد ديفيس في مقالة نشرتها مجلة "ناشونال جيوغرافيك": "مع اندثار كل لغة، يصبح العالم محلاً يلازمه نقص أصالته، ولكننا أيضاً نضحّي بمعرفةٍ صرفة، وهي إنجاز فكري لآلاف السنين". وفي تقرير الثقافة العالمي لعام 1998، الذي تصدره منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) وصف التوتر بين الثقافة والتجارة بالقول: "يبدو أن القيم الثقافية التي تميز المجتمعات المحلية والإقليمية والقومية وتربطها تتعرّض لخطر الانغمار في السوق التجارية العالمية".